صدر تصريح 28 فبراير 1922 بمنح مصر الاستقلال - ولو كان شكليًا بحكم بقاء الاحتلال - وكان ذلك من نتائج الثورة الشعبية التى اندلعت عام 1919 ورفعت شعار مصر للمصريين وأفرزت مظاهر جديدة للوحدة الوطنية ووضعت مصر فى أجواء ليبرالية امتدت لثلاثة عقود، ورأت بريطانيا العظمى حينها أنه قد آن الأوان لينال المصريون بعض الميزات الشكلية للاستقلال الوطنى، فجاء تصريح 28 فبراير ليكون علامة فارقة فى الوضع الدستورى للبلاد والذى بمقتضاه أصبح السلطان أحمد فؤاد الأول ملكًا على مصر وتحولت الدولة من سلطنة إلى مملكة وجرت تعديلات شاملة فى الأجهزة الإدارية والمواقع السياسية وأصبح من حق مصر فى ذلك الوقت أن يكون لها بعثات دبلوماسية مستقلة معترفًا بها دوليًا فى عدد من العواصم الكبرى الموجودة حينذاك، فافتتحت مصر بعض المفوضيات، وعددًا آخر من القنصليات وبرزت أسماء الشباب الدبلوماسى من أمثال محمود فوزى ومحمد عوض القونى وأحمد فراج طايع وغيرهم ممن أصبحوا فيما بعد سفراء لامعين ووزراء مرموقين، بالإضافة إلى عددٍ ممن ينتسبون إلى العائلة المالكة ونذكر منهم محمود فخرى باشا الذى كان سفيرًا لمصر فى باريس، كما برزت أسماء أخرى مثل عثمان توفيق وعثمان أرناؤوط وعدلى أندراوس الذى كان سفيرًا فى العاصمة الفرنسية أيضًا، وبذلك خلقت أجواء 1919 مناخًا جديدًا تمتعت فيه مصر بنوع من الاستقلال الاسمى الذى عززته نسبيًا معاهدة 1936، ونحن هنا نفرق بين عدة مراحل فى الفترة الواقعة مابين 1922 و1936 التى انتهت بتوقيع الاتفاقية المصرية البريطانية ورحيل الملك فؤاد وخلافة فاروق الأول له على العرش، لكى نكتشف فيها تنامى الوعى الوطنى خصوصًا بعد أن فتح دستور1923 الباب على مصراعيه للحريات المدنية والسياسية وخلق بيئة للعمل الوطنى فى كل الاتجاهات كان أبرز رموزها سعد زغلول ومصطفى النحاس فى السياسة وسيد درويش ومحمود مختار فى الفن موسيقيًا أو تشكيليًا، كما ازدهر الأدب وترسخت مظاهر التأثير السياسى فى الحياة التعليمية ومظاهرات الطلاب، ثم تأتى الفترة الثانية من 1936 إلى 1952 وهى التى شهدت تنامى دور جماعة الإخوان المسلمين واقتحامها ميدان العمل السياسى وشيوع محاولات الاغتيال مع التذمر الكامن بين ضباط الجيش المصرى خصوصًا فى أثناء حرب فلسطين 1948 وما بعدها، مع ظهور تنظيمات تأثرت بالنظم الفاشية قبيل الحرب العالمية الثانية، ونتذكر هنا حدثًا مهما أدى إلى جفوة بين القصر الملكى وقصر الدوبارة مقر المندوب السامى البريطانى وأعنى به حادث 4 فبراير1942 وفرض حكومة من حزب الأغلبية برئاسة النحاس باشا لا حبًا فى الديمقراطية ولكن حفاظًا على استقرار البلاد فى وقتٍ لم تكن كفة الحلفاء قد رجحت فى ميادين القتال وكان الخطر يتهدد الوجود الإنجليزى فى مصر على نحو غير مسبوق، وقادت مجموعة يمثلها على ماهر وعزيز المصرى توجهًا متعاطفًا مع دول المحور ومعاديًا للوجود البريطانى فى مصر وهى ذات الفترة التى صرعت فيها رصاصاتٌ مدبرة أمين عثمان باشا وزير مالية الوفد الذى تحدث عن زواجٍ كاثوليكى بين مصر وبريطانيا، وفى تلك الفترة أيضًا بدأت تفوح رائحة فساد الملك فاروق وانتشرت المنشورات السرية داخل الجيش وخارجه وعاد الضباط الأحرار من حرب فلسطين الأولى وهم يزمعون شيئًا استقر رأيهم عليه وهو أن تحرير فلسطين يبدأ بتحرير مصر أولاً، ونشطت الدبلوماسية المصرية مرة أخرى لتتصدر المشهد وبرز اسم الدكتور محمد صلاح الدين وزير خارجية الوفد لكى يكون رمزًا للدبلوماسية الوطنية الجديدة التى تشكلت فى إطارها المنظومة الكاملة للدبلوماسية المصرية بعد ذلك، والتى أفرخت من قبل أسماء معروفة مثل أحمد فراج طايع أول وزير خارجية بعد ثورة يوليو 1952 والذى جرى استدعاؤه وكان قنصلاً لمصر فى تريستا بإيطاليا، بينما عمل محمود فوزى بالوفد الدائم بالأمم المتحدة ثم سفيرا فى لندن خصوصًا أن الدبلوماسية المصرية كانت شريكًا فاعلاً للأعمال التحضيرية التى مهدت لقيام الأمم المتحدة بعد عصبة الأمم، وهى الفترة التمهيدية التى برز من أبنائها بعد ذلك أجيال من الدبلوماسيين من أمثال محمود رياض وأحمد عصمت عبد المجيد وأشرف غربال وإسماعيل فهمى وصولاً لأجيال عبد الرؤوف الريدى وعمرو موسى ونبيل العربى وأحمد ماهر السيد وغيرهم ممن تفاعلوا مع نظم الحكم فى فترات متعاقبة وكانوا تعبيرًا مشرقًا عن وجه مصر بعد ثورة يوليو 1952، ورغم أنى لست من أشد المتحمسين لدور الدكتور محمود فوزى إذ أراه سلبيًا فى معظمه حيث كانت لدى ذلك الدبلوماسى المحنك الفرصة لأن يوجه الضباط الشباب من رجال الثورة فى اتجاهات قد تكون أفضل مما جرى، ولكنه آثر السلامة وطوى رؤيته الحقيقية بغلالات من الهدوء الشديد والأدب الراقي. ورغم ذلك فنحن لا نغمط الرجل حقه بل نراه بالتأكيد واحدًا من رواد الدبلوماسية المصرية الحديثة، وقد أتيح لى أن أراه فى أثناء رحلة علاج له فى أواخر عام 1975 بلندن عن طريق صهره زميلى الدبلوماسى اللامع أحمد أمين والى، ولفت نظرى أن ذلك الدبلوماسى المخضرم قد شغل منصب وزير الخارجية ونائب رئيس مجلس الوزراء ثم رئيس مجلس الوزراء فى أول حكومة للرئيس الراحل أنور السادات، ثم أصبح مساعدًا لرئيس الجمهورية، ولابد أن نشير هنا إلى أن د. محمد صلاح الدين يمثل مدرسة دبلوماسية وطنية من طراز رفيع، وأن إسماعيل فهمى شخصية بارزة فى تاريخ الدبلوماسية المصرية حيث كان معروفًا بشجاعة الرأى والقدرة على اتخاذ القرار الذى يؤمن به فى كل الظروف. هذه صفحات مشرقة من تاريخ الدبلوماسية المصرية فى عيدها المئوى.
جريدة الأهرام
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/844156.aspx