يحفل تاريخ الدول بشخصيات استثنائية تفرزها الأمم فى مراحل معينة على غير توقع، ونحن نعرف تاريخ روسيا والتفرد الذى تتمتع به تلك الدولة القارة من موارد طبيعية ضخمة وثرواتٍ هائلة واختلافٍ فى الأجواء وتعددية فى الأعراق، بل وتباين فى الثقافات، ونعرف عن روسيا القيصرية أكثر مما نعرف عن روسيا السوفيتية، وهانحن الآن أمام روسيا الاتحادية التى تُطل علينا بزعيمٍ من طرازٍ متفرد يملك مقوماتٍ شخصية أهلته لأن يتصدر المشهد الدولى كما لم يحدث من قبل، فهو شاب رياضى ولاعب تايكوندو وسباح ماهر يملك قدرة كبيرة على التحمل وإرادة صلبة فى التحدى.
ومازلت أتذكر طُرفة تتعلق بموقفه من ثوار الشيشان حين كان يزمع إعدام بعض قادتهم فجاءته رجاءات للعدول عن ذلك، وقال له أصحابها: دعهم لحسابهم عند الله، فأجاب فى تلقائية شديدة: إننى أوافق على ذلك ولهذا فسأقوم بإرسالهم إليه! إنه رجل الاستخبارات الذى ترأس محطة الـ«كى جى بى» فى ألمانيا الشرقية، وكان دائمًا محط الأنظار كما لو أنه مؤهل للزعامة، مترقب للقيادة، ولقد تأثر بعمق بما جرى لبلاده من تراجع بعد انهيار الاتحاد السوفيتى وبروز بعض الشخصيات الهزلية على مسرح الكرملين.
ومن أشهرهم الرئيس الروسى الراحل بوريس يلتسين، الذى شهد انفراط عقد الاتحاد السوفيتى الكبير وتجزئته على نحوٍ أدى إلى انتهاء الحرب الباردة وقتها، وكان ذلك إيذانًا بتفرد الغرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة العالم وتشكيل العلاقات الدولية المعاصرة، وكأنما خرج فلاديمير بوتين من تلك المحنة القاسية بشحنات ضخمة من الرغبة فى الثأر لبلاده لاستعادة مكانتها، وأعاد إلى بعض الأذهان صورة الزعيم الأوحد مثلما حدث فى عصر جوزيف ستالين فى الحرب العالمية الثانية وما بعدها.
.. ولقد أطل بوتين بنظرة استعلاءٍ ووعيد للغرب، حريصًا على أن يرد كل صفعةٍ تأثرت بها بلاده ذات الأعماق السحيقة فى الجغرافيا والتاريخ معًا، وظهر رجل موسكو القوى وكأنه يحاول استعادة ثنائية القطبين الكبيرين فى منظومة العلاقات الدولية المعاصرة، بحيث تصبح روسيا ندًا من جديد للولايات المتحدة الأمريكية، واضعين فى الاعتبار أن طرفًا ثالثًا قد تنامى وجوده وتضخمت قوته الاقتصادية والسياسية بل والثقافية، وأعنى به التنين الأصفر المتجسد فى المارد الصينى الذى حقق نجاحاتٍ باهرة فى مجالات الصناعة واستثمارات التكنولوجيا الحديثة، فضلًا عن حربٍ اقتصادية مكتومة مع الغرب، فى وقتٍ أغرقت فيه المنتجات الصينية أسواق العالم.
وقد فطن بوتين إلى ذلك مبكرًا واستطاع أن يمحو بدرجةٍ كبيرة آثار ذلك الصراع القومى الموروث بين بكين وموسكو بحيث بدت العلاقة بينهما أفضل من عقودٍ مضت، ومازلنا نتذكر الخلاف الصينى- السوفيتى فى ستينيات القرن الماضى، وتأثير ذلك على معسكر أوروبا الشرقية وعلاقته بالصين وقتها ربما باستثناء دولة أو اثنتين ظلتا على علاقة طيبة بدولة العم ماو حينذاك.
إننى أكتب هذه السطور ولدىَّ شعور بمزيج من الإعجاب والقلق فى ذات الوقت تجاه زعيم روسيا الذى يُمسك بقرار الحرب فى يده اليمنى وعبارات الغزل السياسى فى يده اليسرى، مع قدرٍ كبيرٍ من الصرامة فى التعامل مع وضع الزعماء فى أحجامهم الحقيقية، إنه هو الذى ترك رئيس تركيا أردوغان فى بهو السكرتارية على باب مكتبه لما يقرب من عشر دقائق ثقيلة محرجة لخروجه عن الأعراف الدبلوماسية المعتادة.
وهو الذى استقبل رئيس وزراء اليابان مداعبًا كلبه الأثير لحظة استقبال الضيف القادم من بلاد الشمس المشرقة التى هزمت روسيا عام 1905، والتى أصدر وقتها الزعيم المصرى الشاب مصطفى كامل كتابه الذى يتغنى بانتصار دولة آسيوية شرقية على أمة أوروبية غربية بمفهومه حينذاك عندما كانت روسيا تحت مظلة الحكم القيصرى وشبح الدب الباحث عن المياه الدافئة يناوئ الممالك الأوروبية، ويترقب انهيار الدولة العثمانية آنذاك واضعًا نصب عينيه أهمية المضائق التى يصل منها إلى البحار المفتوحة.
إننا نتذكر كل ذلك فى غضون الأزمة المحتدمة بين موسكو وكييف، والصراع الذى بدأ واضحًا منذ عام 2015 عندما استولى الجيش الروسى على شبه جزيرة القرم، وظهرت المخاوف الروسية واضحة من احتمال انضمام أوكرانيا لحلف الناتو، وها هى لعبة الشد والجذب بين الغرب وموسكو تمارس تأثيرها بين مشاعر متفاوتة، بعضها يدق طبول الحرب والبعض الآخر يدعو للحوار واستمرار التفاوض والوساطة التى لعب فيها الزعيمان الفرنسى والألمانى دورًا لإقناع موسكو بتسوية هذه الأزمة التى تُذكّر العالم بأحداث خليج الخنازير فى كوبا عام 1962، والتى كانت نموذجًا عكسيًا على الحدود الأمريكية لما يجرى حاليًا على الحدود الروسية.. إن التاريخ يعيد نفسه بدهائه المعروف وحكمته التى لا تنتهى، ويبقى بوتين لاعبًا رئيسيًا على مسرح الأحداث منذ بدايات هذا القرن حتى الآن.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2532526