تسلطت الأضواء فوق قباب الكرملين فى الأسابيع الأخيرة عندما حبس العالم أنفاسه تحسبًا لتدخل محتمل من جانب القوات الروسية للدولة الجارة أوكرانيا والتى كانت جزءًا من الاتحاد السوفيتى السابق، وهو ما حدث بالفعل الخميس الماضى خصوصًا أن ذلك ليس جديدًا على تصرفات الدب الروسى فى إطار سيطرته التاريخية على معظم دول أوروبا الشرقية وبعض الأقطار الآسيوية بحيث يترك ذكرياتٍ لا تنسى وبصماتٍ لا تمحى على جبين عدد من تلك الدول، ونحن نتذكر ما جرى فى المجر عام 1956 وإعدام إمرى ناجى فى زحام أحداث العدوان الثلاثى وانشغال المجتمع الدولى بحرب السويس، كما لا ننسى ربيع براغ عام 1968 عندما زحفت الدبابات والسيارات المجنزرة على شوارع براغ لتلقن التشيك درسًا يتعظ به الآخرون، ولأن على قمة السلطة فى موسكو زعيمٌ من طرازٍ فريد يملك حيوية الشباب وحنكة الرجال وحكمة الشيوخ مع صلابة واضحة ومواقف حدية تجاه الغرب ويتبنى سياسة حاسمة يحاول بها استعادة شباب بلاده ويلتقط من روسيا القيصرية المظاهر التى تتماشى مع الكبرياء الروسية، ويستمد من روسيا السوفيتية ما يتناسب مع الهيمنة الإقليمية والأدوار الدولية، كما أنه مشحون بشعورٍ كامن يرتبط بسنوات التراجع لمكانة روسيا السوفيتية وخروج موسكو من سباق القوى الأعظم ولو لفترةٍ زمنية لم تدم طويلاً، إذ إن هذا الإحساس لدى بوتين يجعله أحيانًا ذا رغبةٍ قوية فى إثبات الذات ودفع بلاده إلى صدارة المشهد العالمى المعاصر، ولقد أعادت أحداث أوكرانيا إلى الأذهان أجواء الحرب الباردة وخصائصها التى تزامنت مع الفترة الواقعة بين نهاية الحرب العالمية الثانية حتى سقوط حائط برلين، وشهدت تصعيدًا وصل إلى احتمال الصدام المباشر مثلما حدث فى الأزمة الكوبية المسماة بمواجهة «خليج الخنازير» عندما وصل الروس والأمريكان إلى حافة الحرب ثم تراجعت الأمور ومرت الأحداث، ووقر فى ذهن كل خبراء العلاقات الدولية أن الاستعدادات الكبيرة للحرب العالمية الثالثة هى أكبر ضمانٍ لعدم حدوثها فالاستعداد للحرب يعنى تلقائيًا انتفاء وقوعها، لأن كل طرف يقدر جيدًا احتمالات الردع المباشر من الطرف الآخر حيث تعرف كل دولة حجم قوة خصمها وقدرته التسليحية فضلاً عن أن التقدم التكنولوجى يمكن أن يجعل حجم الخسائر فى حروب المستقبل أفدح بكثير مما كان متوقعًا، ويكفى أن نتأمل الهجوم (السيبرانى) الذى تمارسه الدولة الروسية للضغط على خصومها وشل حركة الأجهزة المختلفة لديها على نحو لم يكن معروفًا من قبل، ولنا هنا الملاحظات التالية:
أولاً: إن الدولة الصينية الكبرى هى ظهيرٌ يمكن أن يراه كل متأمل للخلفية الثابتة للدولة الروسية، فالجوار الجغرافى والاندماج التاريخى قد خلق بين الأمتين الكبيرتين الصين وروسيا عوامل مشتركة استطاعت الانتصار على الخلافات الطارئة، سواء كانت ذات طبيعة قومية أو دوافع أيديولوجية، فالخلاف الصينى السوفيتى فى ستينيات القرن الماضى لم يصمد طويلاً أو على الأقل لم يؤثر فى طبيعة العلاقات بين الدولتين الجارتين اللتين يجمعهما تاريخ طويل من المواجهات المستمرة والشكوك المتبادلة نحو الغرب خصوصًا الولايات المتحدة الأمريكية، فالقارة الأوروآسيوية زاخرة بالثروات الطبيعية والموارد البشرية فضلاً عن التقدم الصناعى خصوصًا تلك التى نطلق عليها الصناعات الثقيلة ومن بينها صناعة السلاح، إذ أن تلك الترسانة الضخمة التى تحوزها روسيا الاتحادية هى أهم ما يميز حركة الدب الروسى إقليميًا ودوليًا.
ثانيًا: إن السياسة الروسية المعاصرة مازالت تتعاطف مع الدول التى تسعى للتنمية وتطلب التحرر الوطنى وترفض التدخل الأجنبى، لذلك حظيت موسكو ودبلوماسيتها بشعبية لا بأس بها فى عدد من الدول الآسيوية والإفريقية، بل إن علاقات موسكو بدول غرب أوروبا فى مجملها هى علاقات طيبة خاصة مع ألمانيا وفرنسا ولكنها تحتاج إلى بعض الترميم مع لندن التى تتبنى دائمًا السياسات الأمريكية وتدافع عنها حماية للمحور الثقافى الأنجلو ساكسونى، وقد بدا ذلك واضحًا أثناء المواجهة التى جرت بسبب أوكرانيا ودورها كخط دفاع عن أمن حلف الأطلنطى.
ثالثًا: لم يعدم الرئيس الروسى وسيلة للخلاص من الموقف الذى تدهور بشكلٍ واضح بينه وبين الغرب فرأى أن تكون المواجهة على الأرض الأوكرانية وحدها بتحريك المجموعات الانفصالية فى شرقى الدولة على النحو الذى عرفناه بعد اتهام أوكرانيا للروس بأنهم يتطلعون لابتلاع تلك الدولة الواقعة على حدودهم وذلك فى خطوة استباقية تحسبًا للمستقبل، خصوصًا فى ظل التلويح من جانب دول الأطلنطى بأن استخدام القوة هو خيار سوف يظل مطروحًا لاسيما أن هناك شعورًا كبيرًا بأن الحرب الاقتصادية هى التى تحرك العالم وتدفع إلى المواجهات الناجمة عن صراع المصالح المتبادلة بين القوى المختلفة حول الأسواق المفتوحة وأسعار العملات المتفاوتة لا فى أوروبا وحدها ولكن على صعيد العلاقات الدولية التى تشمل الاهتمامات المختلفة لكل طرف فى مناطق معينة من خريطة العالم المعاصر.
.. إننا نأمل أن تأتى الرياح بما تشتهى السفن ونتوقع هدوءًا تستقر به الأوضاع على حدود روسيا الاتحادية مع جيرانها، ونأمل كذلك أن يتوقف حلف الناتو عن عمليات اختبار القوة واستفزاز الدب الروسى الباحث عن المياه الدافئة والبحار المفتوحة والذى يشعر أن هناك دائمًا ثأرا تاريخيا مع جيرانه غربًا واهتماما زائدا مع جيرانه شرقًا، حتى نخرج من أجواء الحرب ونتطلع إلى نسائم السلام.
جريدة الأهرام
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/845064.aspx