إن هناك قصة طريفة يجب أن أرويها؛ لأنها تُبيِّن أساليبَ الفساد وأنواع الانحراف لدى شعبنا الذكى الذى لا يترك وسيلة لكى يتحايل على القانون ويسطو على المال العام، ولو أن هذا الذكاء قد استُخدم فى غير ذلك لكان وضعنا أفضل عشرات المرات مما نحن عليه، فأثناء عمليات الحفر لإنشاء «مترو الأنفاق» بواسطة شركة فرنسية تسرَّب خبر إلى الصحف بوصول «حفَّار» عملاق إلى الجمارك فى «الإسكندرية» تمهيدًا لاستخدامه فى عمليات الحفر الكبرى التى سوف تُجرى فى أرض العاصمة «القاهرة»، وكان الخبر يبدو عاديًّا لا يلفت الأنظار لأكثر من محتواه، ولكن بعد مُضى عدَّة أيام جاء خبر آخر فى الصحف يُشير إلى اختفاء قطع ومكونات الحفَّار والإعلان عن ضياع كل ما يتصل به واندهش الرأى العام، ولكنَّ الكل ابتلع ما جرى باعتباره عملية سطو على مكونات ذلك الحفار الضخم، وأصبح الأمر مثارًا للتندُّر ومبعثًا للفُكاهة؛ فهو أشبه ما يكون باختفاء فيل فى حديقة مأهولة، واندهش المسئول الكبير فى الدولة وطلب منى الاستفسار عن كيفية سرقة جهاز ضخم بهذه الصورة وما ملابسات ذلك وتداعياته؟! وقُمتُ بدورى وحسب التعليمات باستطلاع رأى الجهات الأمنية المعنية، فأُبلغنا أنه لم يكن هناك حفَّار، ولم يدخل الميناء، ولم يُسرق وإنما يتلخص الأمر فى نوع من «السرقة الدفترية» التى تدل على الذكاء الفاسد والألاعيب الجديدة التى كشفتها أجهزة الأمن المصرية، إذ إن مجموعة من لصوص المال العام بعضهم فى الجمارك، وبعضهم فى الميناء، وغيرهم موزعون فى جهات مختلفة، أصدروا أوراقًا رسمية بشراء الحفار وحصلوا على ما يقرب من مليونى جنيه من الخزانة العامة لشرائه، وبعد فترة وجيزة قاموا بتوزيع الأموال بينهم وأعلنوا عن ضياع الحفار معتمدين على أوراق مختومة من الجهات التى ينتمون إليها، وكان ذلك يبشر بنوع جديد من السرقة لم يكن معروفًا حتى وقتها، وأعنى به «السرقة الدفترية»، أى السرقة على الورق دون مجهود أو عناء بحيث يمكن الحصول على المقابل المادى دون دخول الحفار إلى الميناء ومُعاملته جُمركيًّا، ثم إعلان ضياعه فجأةً حتى يحصل اللصوص على ثمنه وتضيع قيمة الحفار بين القبائل كما يقولون! ولقد شغلتنى تلك القصة مدَّةً من الزمن، وكنت مُندهشًا من روح المخاطرة والجرأة وعبقرية الجريمة إذا جاز التعبير، ولكن هناك نماذج أجنبية على ما نعلم تؤكد التقدم الملموس فى أنواع الجريمة، خصوصًا فى العصر الإلكترونى وإمكانية السطو على أرقام حسابات الآخرين فى البنوك أو التقاط أرقام «كروت الائتمان» لديهم بحيث لم يعد هناك مبرر لكى نتحدث عن عجز البعض أمام إحكام الشروط وتعقيدات الروتين منعًا للسطو على حقوق الناس وضياع أموالهم، بل وممتلكاتهم أحيانًا، وعندما جرى الحديث مؤخرًا عن «الشمول المالى» واتجاه الدولة إلى التعامل الإلكترونى فى كل ما يتصل بعلاقتها بغيرها وبأفرادها جال بخاطرى أن الدولة الإلكترونية سوف تكون بعد فترة وجيزة أكثر إحكامًا، وسوف يتلاشى إلى حد كبير الدور المعروف للصوص المال العام، بل قد تصبح الأمور أكثر شفافية مما هى عليه، فلن يتقاضى أحد عُملات ورقية، ولكن التعامل سوف يصبح فقط من خلال الكروت الإلكترونية، وتلك نقلة نوعية تدعونا إلى الحديث عن ملاحظتين مهمتين:
أولاً: إنه بينما تتجه الدول خطوات نحو تحديث أسلوب المعاملات المالية وإقلال الاعتماد على العنصر البشرى، فإن هناك على الجانب الآخر من يفكرون فى الخلاص من ذلك ويكتشفون من الأساليب ما يسمح بمروره من خلال ثغرات ولو كانت مُعقَّدة، فرجل الأمن الذكى يقابله على الجانب الآخر لص ذكى أيضًا.
ثانيًا: إن تشابك المعاملات وتعقيد الحياة لن يسمحا على المدى الطويل بالأساليب التقليدية فى السرقة من خلال عمليات نصب أو ألاعيب معروفة، فكما أن الدنيا تتغيَّر والعالم يتطوَّر فإن الجريمة أيضًا وأساليب مكافحتها تتحوَّل وتتغيَّر؛ لذلك فإننا نظن أن الثورة التكنولوجية المعاصرة سوف تسهم بقدر متوقع فى الحد من آثار الجرائم المالية بما فى ذلك الجريمة الإلكترونية.
ينبغى أن نضع فى الاعتبار السرعة الفائقة التى تتطور بها أساليب التداول المالى والنظم المصرفية وطرق البنوك فى السحب والإيداع ووجود العامل الإلكترونى كمؤشر لهذه التغيرات الجديدة التى وفدت على حياتنا، لذلك فلن يضيع حفَّار مرَّةً أخرى، ولن يكون هناك موظف يرتشى فى ظل الحبكة التى تحددها النظم الجديدة فى المعاملات بين جميع الأطراف.. إنه عالم جديد لا ينبغى أن نستهين فيه بشىء حتى ولو كان صغيرًا!
د. مصطفي الفقي;
مجلة 7 أيام العدد 274
تاريخ النشر: 17 أبريل 2018
رابط المقال: https://www.7-ayam.com/%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%81%d8%a7%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%b6%d8%a7%d8%a6%d8%b9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%b1%d9%82%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%81%d8%aa%d8%b1%d9%8a%d8%a9/