إن جولة عبر الأقطار الخمسة للمغرب العربي تجعلنا نتأمل النقاط الآتية:
أولاً: كنَّا نتساءل في ظل حكم معمر القذافي أين الشعب الليبي؟ أربعون عاماً أخفاه ذلك الحكم وقام بتهميشه على نحوٍ غير مسبوق فتبددت ثرواته وتضاربت قراراته وأصبح نموذجاً للتندر في معظم دول العالم، وعندما قامت الثورة الشعبية في ذلك القطر العربي، تفاءل الناس خيراً وظنوا أننا نقف على أعتاب مرحلةٍ جديدة يرتفع فيها صوت الشعب ويسود فيها المنطق، ولكن الرياح أتت بما لا تشتهي السفن وتعرَّض ذلك القطر الشقيق لمصاعب ومتاعب هي رد فعل لسنوات طويلة من التغييب والتعتيم، فضلاً عن الأطماع التي تستهدف ذلك البلد الكبير مساحةً والذي تطل شواطئه الواسعة على جنوب البحر المتوسط، إنه ذلك الشعب الذي عانى الاستعمار البريطاني، شعب المجاهد الكبير عمر المختار الذي لا تخلو عاصمة عربية من شارعٍ باسمه، وهو الذي ألقى به القراصنة «الطليان» من الطائرة لأنه كان يقود النضال الوطني ضد احتلالهم واستغلالهم، ولا شك في أن أربعين عاماً من حكم القذافي قد تحتاج إلى أربعين عاماً أخرى من الإصلاح، فالرجل كان يعيش خارج دائرة التاريخ ويهوى التآمر والانتقام وإهدار الثروة الليبية وتبديد طاقات ذلك الشعب الطيب وخلق الصراعات بين مناطقه المختلفة، بل ومحاولة اغتيال ملك عربي كبير، ولكن المشهد الحالي لا يبعث على الطمأنينة حيث توافدت على ذلك البلد الطيب عناصر من خارجه وأفكارٌ مستجدة بعضها يرفع رايات الإسلام الحنيف وبعضها أتى غازياً من جنوب الصحراء، فتزايدت وتيرة العنف وأصبح الإقليم الشرقي في ليبيا مصدراً لتهريب السلاح إلى مصر، كما قامت جماعات إرهابية بالقتل على الهوية واستهدفت أقباط مصر تحديداً، وساد الهرج والمرج حتى ارتفعت أصوات تطالب بعودة الملكية إلى ليبيا!
ثانياً: تونس هي بداية الربيع العربي، تلك الدرة الخضراء بمبانيها البيضاء وبالعمق الثقافي فيها وبالحركة الفنية لديها حاولت دائماً أن تقدم للمجتمع العربي ما هو أفضل، ولو أنها قدمت ابن خلدون وحده لكفاها، إنها بلد الزيتونة والخضر حسين شيخ الأزهر الشريف وبيرم التونسي شاعر الحركة الوطنية المصرية، تعرضت في السنوات الأخيرة لموجات صعودٍ وهبوط وتأرجحت فيها الحياة ما بين الاستقرار والارتباك، وعانت من تيارٍ إسلامي أصفه أنا شخصياً بأنه الأكثر اعتدالاً مما عرفنا نحن في مصر، ولقد التقيت بالشيخ راشد الغنوشي أكثر من مرة ووجدت أن فكره مقبولٌ في معظمه كما أن قرب تونس من السواحل الأوروبية وشيوع اللغة الفرنسية فيها جعل فهمهم للإسلام أكثر وسطية واعتدالاً، ولقد آلمني أخيراً أن رفض رئيسها المثقف الكبير منصف المرزوقي أن يصافح الرئيس المصري القاضي الفاضل عدلي منصور، وكأنما اختار الرئيس التونسي أفضل نموذج يعتز به المصريون ليوجه إليه إهانة لا مبرر لها عندما التقاه في القمة العربية في الكويت، وستظل تونس لؤلؤة مضيئة في الشمال الأفريقي وعنصر توازن واستقرار كما نريد لها فهي بلد بوعزيزي كما أنها أيضاً بلد الحبيب بورقيبة بفكره الثاقب ورؤيته البعيدة التي جعلت من تونس أكثر الدول تطوراً في إطار المجتمع المدني وحقوق المرأة وغيرها من قضايا العصر، ولقد استضافت تونس جامعة الدول العربية لسنوات عدة وجاء عليها وقت كان أمين عام الجامعة وأمين عام منظمة التعاون الإسلامي تونسيين، كما أنها مقر مجلس وزراء الداخلية العرب الذي يجب أن يكون مركز الاستقرار ومصدر الهيبة في ظل ظروف الفوضى الضاربة بأطنابها في أرجاء المنطقة كلها.
ثالثاً: إن الشعب الجزائري شديد المراس يدرك الجميع تاريخه النضالي ووضوح دوره القومي، بلد هواري بومدين الذي جاء إلى عبدالناصر ومعه «شيك على بياض» لشراء أسلحة سوفياتية لمصر بعد نكسة 1967، قبل أن يتدفق الدعم السعودي - الكويتي بالمال على جيش الكنانة حينذاك، ولقد اتخذت الجزائر دائماً مواقف حدّية في الصراعات العربية والخلافات الأفريقية وحافظت على هيبةٍ لا تزال لها بعد سنواتٍ عانت فيها مرتين، الأولى ضد الاستعمار الفرنسي الجائر، والثانية ضد الإرهاب الأسود، وخرجت منهما بمئات الألوف من الشهداء والضحايا ولكنها لم تفقد هويتها، ولم تفرط في عروبتها ولم تبتعد عن إسلامها، فقد كان لها دائماً موقفٌ خاص مثلما حدث مع الثورة الليبية والمأساة السورية وغيرهما من قضايا العالمين العربي والإسلامي، ولا شك في أن نزاعها مع المغرب حول قضية الصحراء قد استنزف من البلدين معاً طاقة كبيرة كان الأولى بهما توجيهها إيجابياً لمصلحتهما، خصوصاً أن التداخل السكاني بين المغرب والجزائر أمر يعلمه الجميع، والشعب الجزائري له مكانة خاصة في أفريقيا والوطن العربي باعتباره شعب المواجهات والتحديات الذي تغلب على الصعاب في بسالة واضحة، وإذا كان الإسلام السياسي يستوطن الجزائر فالسبب في ذلك يرجع إلى أنه يعتبر ديناً وقومية لدى ذلك الشعب الشقيق في الوقت ذاته، وعندما قاتل الجزائريون سياسة الاستيعاب الفرنسية كانوا يتحدثون لغة المحتل فلم يكن أمامهم إلا أن يلوذوا بالاختلاف معه من منظور الدين حتى أصبح الإسلام عندهم مرادفاً للعروبة وتعبيراً عن القومية. إن الجزائر بلد مستقل الإرادة يتحرك مع القضايا العربية والإسلامية بحماسة شديدة، ولكن العنف يلازم أحياناً بعض مواقفه حتى في ميدان الرياضة!
رابعاً: المغرب تلك الدولة التي تقف على شاطئ الأطلسي على مقربةٍ لا تزيد أميالاً عدة من الساحل الإسباني يفصلهما ممر جبل طارق حتى لا تزال للإسبان سيطرة في منطقتي سبتة ومليلة، إنها أرض المرابطين والموحدين، عرفت الوجود الفرنسي ولكنها حافظت على هويتها العربية الإسلامية حتى أن كل مدينة مغربية تبدو ذات طابع خاص، فالرباط غير الدار البيضاء وهما معاً تختلفان عن مراكش والمدن الثلاث تختلف عن مدينة فاس التي تختلف أيضاً عن مكناس، فالتعددية الاجتماعية والمعمارية من أسباب الإعجاب بذلك البلد العربي الإسلامي الشقيق الذي حقق في السنوات الأخيرة معدلاتٍ لا بأس بها في النمو بفضل موارده الطبيعية والبشرية معاً، وليس من شكٍ في أن حل الصراع مع الجزائر حول مشكلة الصحراء سيكون له مردوده لمصلحة البلدين معاً، ولقد سألت ذات يوم المفكر اللبناني غسّان سلامة عن رأيه في أكثر الدول العربية تحركاً نحو الحداثة والعصرنة فكانت إجابته دولة المغرب. لقد كان ذلك الحديث منذ سنوات عدة، وما زلت أذكره كلما سمعت أخباراً طيبة آتية من الشاطئ العربي للمحيط الأطلسي. إن دولة المغرب التي تتجسد فيها مظاهر الأبهة في حفلاتها الاجتماعية ومناسباتها الدينية لا تزال دولة تواجه الفقر في بعض ربوعها شأن كل الدول النامية في عالمنا المعاصر ولكنها تعتمد على التنوع الزراعي الصناعي السياحي فضلاً عن الصيد والرعي لتقف في مصاف الاقتصادات المتوازنة في القارة الأفريقية، وعندما دعاها أشقاؤها في مجلس التعاون الخليجي باعتبارها النظام الملكي الوحيد في الشمال الأفريقي لكي تنضم إلى ذلك المجلس هي ومملكة الأردن، فإن البعض رأى في ذلك تكريماً لها وحرصاً عليها وارتباطاً بها.
خامساً: يدهشني كثيراً كلما زرت موريتانيا ذلك القطر العربي - الأفريقي المسلم على الطرف الغربي الجنوبي من ساحل الأطلسي أن أجد أن اللغة العربية شديدة الوضوح والرسوخ لديهم، ولا عجب فهي بلد الشعراء والأدباء تقف حارسةً لقيم العروبة في تلك البقعة النائية نسبياً من الشمال الأفريقي، وما زلنا نتذكر أن مصر قد افتتحت مركزاً ثقافياً في الستينات في العاصمة الموريتانية نواكشوط ما زال مركزاً للإشعاع حتى الآن وقد احتفل أخيراً بمرور نصف قرنٍ على إنشائه، ولا بد من أن يعتز أهل موريتانيا بتاريخهم العريق فهم أهل شنقيط بأبعادها الحضارية والتاريخية، كما أنهم يرتبطون ارتباطاً وثيقاً بدولة المغرب الشقيق، ويلعبون دوراً سياسياً مؤثراً في الاتحاد المغاربي الذي يبدو محدود الحركة الآن بفعل ما جرى في كل من ليبيا وتونس، ولقد تعرضت موريتانيا في السنوات الأخيرة لتغييرات شبيهة بما جرى في مصر في العام الأخير، وعندما أقامت علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل جزع بعض العرب ولم يعترف أحدٌ بتقصيرنا تجاه ذلك القطر الذي تخلت فرنسا عن دعمه منذ سنوات، ولم ندرك أن الضغوط الأميركية تلعب دوراً معروفاً يهمس في آذان الموريتانيين أن أكبر دولة عربية وهي مصر قد أقامت علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل، وكذلك الأردن، متناسين أنهما دولتان محتلة أراضيهما وأمرهما يختلف عن القطر الموريتاني، ولحسن الحظ أن الشعب الموريتاني قد رفض ذلك جملة وتفصيلاً ولم يتحمس لذلك القرار الذي بدا استثنائياً للجميع، ولقد زرت موريتانيا مرتين بفارق يزيد على عشرين عاماً كانت الأولى مرافقاً للرئيس المصري للوساطة بينهم وبين جيرانهم في السنغال وكانت الثانية عندما كنت مرشحاً لمنصب الأمين العام لجامعة الدول العربية وكنت أجوب بعض الأقطار ولكن الحكومتين القطرية والسودانية قادتا حملة ضدي أحمدالله أنها نجحت في وقتها!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 21 أبريل 2014
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/829682/شباب/المغرب-العربي-جولة-قومية