إننا نستطلع أحوال أمتنا في المشرق العربي كما فعلنا من قبل مع دول المغرب العربي وذلك من خلال المحاور الخمسة الآتية:
أولاً: تجسد «الحالة المصرية» النموذج الأدق لـ «الحالة العربية» عموماً، قلق وترقب، انتظار وأمل، مخاوف واحتمالات، ولقد كنا نقول من قبل إن أحداث لبنان هي «ترمومتر» المنطقة ومحصلة أوضاعها، ولكننا نرى أن مصر بعد ثورة 25 يناير أصبحت هي المؤشر الأساس للوضع العربي العام، فضلاً عن أنها الدولة المركزية المحورية، دولة التسعين مليوناً التي تقف على البوابة الإفريقية الآسيوية وتربط المشرق العربي بالمغرب العربي عبر تاريخها الطويل، ومصر تمر الآن بمرحلة بالغة الأهمية وتشهد تطورات متلاحقة، وتنظر إلى مستقبل لا يخلو من سحب ولا يبرأ من ضباب ولكنها ماضية في طريقها تنظر حولها في دهشة وهي ترى المخاطر تأتيها من شمالها الشرقي ومن جنوبها النيلي ومن غربها الليبي، وتدرك أن مخططات كثيفة تسعى للنيل منها والتأثير فيها وتغيير مسارها وتشعر بأن جماعة «الإخوان المسلمين» في أنحاء العالم ترصد حركتها وتتربص بها، خصوصاً وهي على أعتاب انتخابات رئاسية لا يريدون لها أن تتم بل ويحضرون لمفاجآت غير وطنية لترويع الشعب المصري الذي لم يعد يعبأ بالتهديدات والتسريبات، فلقد جرى تطعيمه من خلال استهداف الشرطة والقوات المسلحة بالعمليات الإجرامية والمؤامرات الإرهابية، ولولا أن لمصر جيشاً وطنياً قوياً ما قامت لها قائمة بعد الظروف التي مرت بها والانتكاسات التي شهدتها عبر تاريخها ودعم أشقائها، ولقد كانت كلمات المرشح الرئاسي المشير عبدالفتاح السيسي عن الدعم الخليجي لمصر خصوصاً من السعودية ودولة الإمارات ودولة الكويت أيضاً خير تعبير عما يشعر به المصريون جميعاً في هذه المرحلة، فـ «الصديق للطريق» و «الشقيق لوقت الشدة»!
ثانياً: إن الذين يعرفون سورية جيداً لم يتوقعوا في أسوأ الاحتمالات أن يصل الأمر في ذلك البلد العربي الشقيق إلى ما وصل إليه، فسورية حصنٌ تاريخي للعروبة ومنطلق للقومية وفيها بدأت أول عاصمة للخلافة الإسلامية بعد «الفتنة الكبرى»، كذلك فإنها من الناحية الاستراتيجية بلد له أهمية خاصة لأنها تقف على الحدود الشمالية للوطن العربي وتجاور دولاً عربية وغير عربية، كما أن تلك الدولة المتميزة قد شهدت استقراراً مكتوماً عبر العقود الأخيرة تحت حكم أسرة الأسد، لذلك عندما انفجر الصراع ثار الشعب السوري مع قوة الدفع التي آلت إليه من أحداث تونس ومصر ثم ليبيا ومع ذلك يصعب تصنيف ما يجري في سورية على أنه جزءٌ من أحداث «الربيع العربي»، إذ إن سورية حالة مختلفة بحكم تأثيرها الفاعل في الصراع العربي الإسرائيلي بل وفي أحداث الشرق الأوسط عموماً. إنها الدولة التي اندمجت مرتين مع مصر، الأولى في عصر محمد علي تحت ولاية ابنه إبراهيم باشا من عام 1831 إلى عام 1840، والثانية في عصر الرئيس الراحل عبد الناصر بين 1958 و1961، كما أن التاريخ الإسلامي يؤكد معنى المواجهة في سورية بين العروبة وغيرها فتولدت الحركة القومية ولم تكن المواجهة بين الإسلام وغيره، لذلك لم تتجذر الحركة الدينية مثلما هو الأمر في مصر وغيرها من أقطار المنطقة، ولقد ظللنا لسنوات طويلة نرى في الوضع اللبناني انعكاساً لما يحدث في سورية وما زلنا حتى الآن نرى أن تلك العلاقة الطردية بين دمشق وبيروت ما زالت قائمة. إننا نحترق كعرب كل يوم ونحن نرى سورية قد تحولت إلى أشلاء وضحايا حتى أصبحنا نتحدث عن اللاجئين السوريين بعد أن كانت بلادهم ملاذاً للاجئين الفلسطينيين!
ثالثاً: إن لبنان ذلك البلد الراقي الجميل بؤرة الشام المزهرة، وسويسرا الشرق كما يقولون، ودرة المشرق العربي تعرض في العقود الأخيرة لما تعرض له من خطوب وندوبٍ وأزمات، وظل شعبه - بطوائفه وفئاته - صامداً يواجه التحديات كافة حيث تتجدد فيه الرغبة الدائمة في الحياة، فلبنان يسقط ليقف في الحال ويصنع من متاعبه وآلامه روحاً جديدة تدفعه إلى الأمام ويدفع الثمن الباهظ لكل كوارث المنطقة ونكباتها، فهو ملاذ اللاجئين الفلسطينيين وملتقى اللاجئين السوريين ومعبر التجارة ونقطة الجذب السياحي في ذات الوقت، ولا نستطيع أن نقول إن التوزيع الطائفي لسلطة الحكم وفقاً لميثاق 1943 ثم «اتفاق الطائف» منذ عقدين قد أضر بلبنان لأنه أعطاه صيغة للحياة والتعايش المشترك لا نكاد نجد لها بديلاً ناجحاً في المنطقة كلها. إن لبنان جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وفيروز ووديع الصافي، إن لبنان الجبل والمدينة قد يحمل دائماً فواتير جيرانه. ويكفي أن نتذكر الحرب الأهلية التي امتدت من عام 1975 حتى عام 1989 تقريباً وحصدت الأخضر واليابس ولكن لبنان قام من جديد، وها هو اليوم يواجه ظروفاً صعبة وهو يحاول اختيار رئيسه الثالث عشر منذ الاستقلال في ظل ملابسات شديدة الحساسية بالغة التعقيد. إنه لبنان ذاته الذي تأثر بالحركة الناصرية للخروج من حكم كميل شمعون ووصول الجنرال فؤاد شهاب إلى السلطة ومن بعده الرئيس الهادئ شارل حلو، ثم جاءت الحقبة السعودية التي حاولت دعم لبنان سياسياً ومادياً وكان أبرز رموزها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري. إن الحالة اللبنانية التي تتميز بالفرادة السياسية والتألق الجغرافي والوهج التاريخي تقدم لنا نموذجاً يجب الحفاظ عليه، وينبغي أن نتذكر أن عبد الناصر قال: «فلنحافظ على خصوصية لبنان» وأن السادات قال: «ارفعوا أيديكم عن لبنان!».
رابعاً: يمثل العراق بالنسبة للوطن العربي الظهير الأيمن والبوابة الشرقية في مواجهة وسط آسيا ودولها فضلاً عن الزخم التاريخي الذي يمثله وزن العراق في الحضارة العربية الإسلامية، والمعاناة غير الإنسانية التي عانى منها العراقيون في العقود الأخيرة من حربٍ وحصارٍ وانفلاتٍ أمني وعمليات تصفية بلغت حداً جعل العراقيين وغير العراقيين يتعودون يومياً على أرقام القتلى على امتداد السنوات الماضية من أبناء ذلك الشعب العريق، ويؤسفنا أن نرى أن العراق ما زال يعاني وأنه ليس في أفضل أوضاعه فما زال الصراع السياسي محتدماً والاغتيالات متواصلة والترصد المتبادل بين القوى السياسية قائماً، بل وأضيف إلى ذلك أن العراق الذي كان رائعاً بتعدديته بين القوميتين العربية والكردية وطوائفه الدينية من سُنّة وشيعة ومسلمين ومسيحيين قد أصبح الآن مرتعاً للروح الطائفية البغيضة، بل لقد أضحى التصويت في الانتخابات البرلمانية وغير البرلمانية قائماً على أسس طائفية كنا نتصور أن العصر قد تجاوزها وأنه لم يعد لها تأثير في عالمنا السياسي المعاصر مع محاولة بعض القيادات الشيعية الارتماء في أحضان إيران ومهاجمة الدول العربية الشقيقة بغير سندٍ أو دليل. إن الشعب العراقي العظيم يستحق أفضل كثيراً مما هو عليه ويحتاج من حكامه إلى نظرة موضوعية للواقع الإقليمي والظروف الدولية، وأنا أظن أن وزير خارجيته الحالي هوشيار زيباري رجل حكيم عاش في الخارج كثيراً ويدرك أبعاد المجتمع العالمي أكثر من غيره، لذلك فإنني أتطلع إلى عراق مستقر يكون إضافة إيجابية لأبنائه عرباً وأكراداً، مسلمين ومسيحيين، شيعة وسنة وطوائف أخرى، فالكاظمية تعانقت مع الأعظمية تحت سماء بغداد عاصمة العباسيين، ولا يود عربي أو مسلم أن يرى الصورة تختلف أو أن التعايش المشترك يهتز فالعراق ركنٌ ركين في المنطقة وإن غاب دوره بعض الوقت فإنه لن يغيب كل الوقت.
خامساً: إن الذي يقلب في الأوضاع العربية الراهنة ويفتش في دفتر أحوالها سيكتشف مباشرة أننا في وضع صعب لأن الأمة تعاني أمراضاً مزمنة وأزمات طارئة، فهي من أكثر مناطق العالم استهدافاً حيث تسعى القوى المختلفة إلى النهش في عظامها وتمزيق وحدتها، كما تلعب الدولة الإسرائيلية دور الرافض المباشر لكل ما يؤدي إلى استقرار المنطقة ونهوض الشعوب العربية خصوصاً الدول المحيطة بها، ولا بد من أن المسؤول الإسرائيلي يفرك يديه في سعادة وهو يرى حالة الوضع العربي العام ويتصفح دفتر أحواله، فالإنقسام واضح والعنف مسيطر والقلاقل والاضطرابات تسود المنطقة ويبدو الأمن القومي العربي في حالة متردية وتكاد بعض الدول العربية أن تتحول إلى «كانتونات» متفرقة وممزقة مع طوفانٍ وافد من التطرف الأعمى الذي يعتنق العنف أسلوباً لتغيير الأوضاع لمصلحته لأن فئة منا خرجت علينا وأساءت إلينا.
إننا نمر بظرفٍ تاريخي عصيب يكاد يطيح بالشخصية القومية ويحيل المنطقة إلى أسوأ بكثير مما كانت عليه قبل الحرب العالمية الأولى، ويكفي أن نلقي نظرة حولنا لندرك أن هناك محاولات مستميتة لتقويض الاعمدة الرئيسية لعدد من الدول العربية وأن روح التآمر تفوح حولنا من كل اتجاه، وأصبح من المتعين علينا أن نواجه الحقائق في شكل مختلف تسود فيه روح التضامن وتتأكد معه مشاعر الندية التي تجعل الموقف العربي منسجماً ولا تسمح لمن يريدون التغريد خارج السرب أن يفعلوا ذلك في كل وقت. إننا أمام أوضاع غير مسبوقة تقتضي منا مواقف غير تقليدية لأننا نريد أن ننظر إلى الظواهر من خارج الصندوق بدلاً من ان نظل أسرى أطر تقليدية لا جدوى منها، ولعلي لا أتجاوز الواقع إذا قلت إننا في حاجة إلى صحوة حقيقية.
ولعلنا نتذكر الذكر الحكيم «لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، فقد آن الأوان لأرض الديانات والثقافات أن تنهض من جديد!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 19 مايو 2014
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/832774/شباب/دفتر-الأحوال-العربية