تواجه المنطقة العربية بل والعالم الإسلامي كله موجات جديدة من التطرف الذي يعتمد العنف أسلوباً للإرهاب والترويع تحت مسميات دينية مغلوطة، وهو ما يدفعنا لاستدعاء بعض الأفكار التي تساهم في استطلاع الموقف واستجلاء الحقيقة على النحو الآتي:
أولاً: إنني أظن أن «التيار القومي» هو الذي يقاوم المحاولات الخبيثة لاستخدام الدين في السياسة ويكون بديلاً قوياً للتطرف والتعصب والغلو، ولقد شهدنا في العقود الأخيرة محاولات للتوفيق بين التيارين «القومي» و «الديني» أو «العروبي» و «الإسلامي». وفي رأينا، فإن المحاولات التي جرت عبر السنين كانت محاولات «توفيقية» بل وأحياناً أخرى «تلفيقية»، ولن يكسر حدة التعصب الديني إلا اندفاع «التيار القومي» والإيمان بالعروبة بديلاً لفكر فصيل مريض أو تجمع إرهابي يحاول سرقة النظم بل والشعوب أيضاً، وأنا ممن يعتقدون أن نظام الحكم الجديد في مصر يسعى إلى توثيق الرابطة القومية وتأكيد الهوية العربية لمصر وأن ذلك هو أقوى رد على ما تعرضت له مصر من أحداث في السنوات الثلاث الماضية، فالعروبة بالنسبة الى مصر قدرٌ ومصيرٌ وحياة ولا يمكن أن تفرط مصر بمكانتها القومية وانتمائها العربي على نحو يؤدي إلى سقوطها في قبضة التيارات الدينية ويهوي بمكانتها باعتبارها دولة مركزية محورية في المنطقة. إن تنامي «التيار القومي» على المستوى العربي كله هو البديل الحقيقي لحالة التشرذم والانقسام التي تشهدها الساحة العربية. إننا في حاجة إلى تقوية التضامن العربي ومد جسور التكامل بين الأقطار العربية حتى نواجه حالة الاستهداف التي تشهدها المنطقة منذ عقود عدة. لقد حان الوقت الذي يجب أن يعي العرب فيه أن الأجندات القُطرية لا تخدم المستقبل القومي ولا الوطني وأنه لا بد من صياغة واعية لرؤى قادمة نتطلع إليها ونسعى لبلوغ غاياتها. يجب أن يشدد المصريون على هويتهم العربية وليتذكروا دائماً أن الدعم العربي كان هو السند أمام التحديات التي طرأت على المنطقة وأن الأشقاء العرب يأخذون بيد بعضهم بعضاً من أجل إغلاق الثغرات أمام من يريدون المرور منها.
ثانياً: يبدو واضحاً لمن يرقب المشهد العربي العام أن الدوافع القُطرية تحاول أحياناً أن تزيح العوامل القومية باختراع أجندات فرعية والدخول في دهاليز السياسة الدولية والإقليمية مع التغريد أحياناً خارج السرب وذلك يعني ببساطة أن مفهوم «الأمة الواحدة» يواجه تشكيكاً قوياً ويتعرض لاختبار صعب، ولعل المشكلة تكمن في ارتفاع حدة النعرات الوطنية والإحساس بالذاتية على حساب الشعور القومي العام، ولحسن حظ العرب أنهم لا يختلفون كثيراً أمام الكوارث والنوائب والخطوب، إذ سرعان ما تلتقي كلمتهم ويبدأون في حالة اصطفاف قومي حتى لو كانت النوازع الداخلية والمشاعر القُطرية لا تتحمس لذلك، فالصراع العربي - الإسرائيلي - على سبيل المثال - هو قضية العرب الأولى، كما أن الأخطار المقبلة مع جماعات إرهابية إلى بعض الدول العربية هي مؤشر ثانٍ لما يمكن أن تواجهه هذه الأمة من خطر جماعي، ونحن لا نغفل حجم الأطماع الخارجية في أنحاء الوطن العربي وهي التي تستند إلى حجم الثروات الطبيعية التي يمتلكها العرب ويستكثرها عليهم أعداؤهم والمتربصون بهم. إن أجندة القوى العظمى والكبرى في المنطقة تقوم على مؤشرين ثابتين عبر العقود الأخيرة وأعني بهما: أولاً ضمان أمن إسرائيل وثانياً الاقتراب السياسي من منابع النفط وتوظيف الديبلوماسية النشطة للقوى العظمى من أجل خدمة هذين الهدفين. إننا إزاء أمة متجانسة تملك من مقومات التوحد ما لا يملكه غيرها ولكنها أيضاً مستهدفة من الخارج كما لم يحدث لسواها، لذلك فإن محاولات الاختراق الأجنبي للشعور القومي العام تتم دائماً من دون توقف، إذ تتسرب القوى والجماعات من خلال الفراغات الموجودة أحياناً في الصف العربي وتلك هي الخطيئة العربية المتكررة التي تسمح للأجنبي بأن يحدد الأجندة القُطرية لإحدى الدول العربية مخالفاً النسق القومي العام بل وخارجاً عن إطار العروبة ذاتها.
ثالثاً: إن العلاقة بين الإسلام والعروبة علاقة تبادلية على اعتبار أن الإسلام هو الذي حمل العروبة إلى أقطارها المختلفة خارج الجزيرة العربية بدليل أن هناك شعوباً قبلت الإسلام ديناً وتحفظت على العربية لغة وآثرت أن تبقى مسلمة القلب أعجمية اللسان، لذلك فنحن لا ننكر أن الحالة العربية بميراثها وتاريخها مدينة للإسلام الحنيف ودعوته التي انطلقت من أرض النبوة بالكثير من أسباب الشهرة وعوامل الاحترام، ولكن ذلك لا يعني أن الإطار القومي للعروبة لا بد من أن يضع في جوهره العامل الديني، لأن ذلك قد يؤدي إلى إحداث نوع من التفرقة أو شكل من أشكال التمييز، ولعل هذا يفسر إقدام المسيحيين العرب على الفكر القومي حتى أنهم كانوا في منطقة الشام وبلاد المهجر هم حملة لواء القومية ودعاة النهضة العربية بعيداً من تأثير العامل الديني الذي حاولوا الهروب منه لأنه يضعهم في إطار مفهوم الأقلية، ولقد جرت محاولات عدة للتوفيق بين التيارين «القومي» و «الديني» وبُذلت جهود حثيثة في هذا السياق نذكر منها جهد المناضل القومي خير الدين حسيب حيث انعقد تحت لواء «مركز الدراسات العربية» عدد من المؤتمرات لإحداث نوع من المصالحة بين التيارين «الإسلامي» و «العروبي» على اعتبار أن المساحة المشتركة بينهما كبيرة وأن تاريخ الحضارة العربية الإسلامية قد أسقط تلازمهما في أحوال كثيرة، ولكن المشكلة كانت تكمن دائماً في تعصب التيار الديني وإحساسه الغريب بالتفرد ورغبته في إقصاء كل فكر سياسي لا يرى في الدين أنه المتغير المستقل الذي يجب أن تتبعه باقي المتغيرات، وفي ظني شخصياً أن الصدام بين الإسلام والعروبة مصطنع ويمكن التعامل بينهما على أرضية حضارية.
رابعاً: إن البعض يتصور أن الحديث عن الفكر العروبي أو التوجه القومي هو نوع من مغازلة الماضي أو هو حديث يجافي روح العصر، والواقع أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق، فالمفهوم القومي قد تطور بل وتغير، ولقد طرحنا في كتابنا «تجديد الفكر القومي» في مطلع تسعينات القرن الماضي التصور المعاصر للنظرية القومية فلم تعد العمد التقليدية للبناء القومي هي تلك التي تستند إلى وحدة العقيدة الدينية أو إلى المعتقد الروحي بل تطورت لتأخذ منحى مختلفاً يركز على العامل الثقافي المستمد من التاريخ والتراث والذي يشكل مضمون الهوية العصرية للأمة، كما أن شبكة المصالح الاقتصادية والتسهيلات اللوجيستية أصبحت هي الأخرى أحد العوامل الحاكمة في تفسير الأسباب والدوافع نحو التجمع القومي ونعني به في حالتنا العمل العربي المشترك، فالأمن القومي مرتبط والمصالح العليا متشابكة والنظرة نحو المستقبل واحدة، عندئذٍ نقول بثقة إن منظوراً جديداً للبعد القومي قد بدأ يطل علينا معتمداً على أسس براغماتية تعلي من شأن الواقع وتستدعي من الماضي ما يخدم الحاضر ولا تستغرق في قراءة «دواوين الحماسة» وصك الشعارات وصياغة الهتافات، فالدنيا قد تغيرت والعصر غير العصر وأصبحنا أمام طوفان من الأجيال الجديدة التي يجب أن ننظر إليها نظرة الاهتمام والتحضير للمستقبل، فالقومية رؤية لما هو قادم وليست بكاءً على الأطلال أو اجتراراً سلبياً للماضي. إننا نظن أنه لن يصمد أمام التيارات الدينية الوافدة والاتجاهات المتشددة وانتشار روح التعصب الذي يتحول إلى عنف إرهابي إلا تيارٌ قومي عصري يدرك المبنى والمعنى لحاجات البشر واهتمامات الناس، فالقومية لم تعد شعاراً نظرياً ولكنها أصبحت إطاراً حياتياً ينتقل من الشكل إلى الجوهر ويفتح بوابة المستقبل.
خامساً: ليس جديداً في العرف الديبلوماسي أن يلتقي الزعماء والقادة في واحدة من وسائل المواصلات الكبرى، إذ ليس لقاء خادم الحرمين بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على متن الطائرة التي أقلت العاهل السعودي في طريق العودة إلى بلاده بدعة جديدة فقد التقى والده الراحل الملك عبد العزيز آل سعود بالرئيس الأميركي روزفلت على متن بارجة في البحر الأحمر مع نهاية الحرب العالمية الثانية، واضعين في الاعتبار أن توقف طائرة العاهل السعودي في مصر كان لتحية الشعب المصري ولتهنئة رئيسه الجديد الذي كان من المنتظر أن يبدأ بزيارة المملكة العربية السعودية - وسيفعل ذلك - كما لا يخفي أن العاهل السعودي كان في رحلة نقاهة بسبب ظروفه الصحية، وفي ظني أن ذلك اللقاء كان إشارة مهمة من جانب خادم الحرمين وبلاده لدعم الرئيس السيسي ومؤازرة شعبه وإشارة إلى أن المملكة العربية السعودية تقف إلى جانب مصر في ثبات ويقين، ولذلك خرج الرئيس السيسي عن المألوف مصرياً ومارس عادة عربية أصيلة بتقبيل رأس الملك الذي دعم ثورة 30 يونيو 2013 ووقفت دولته إلى جانب الشعب المصري على نحو غير مسبوق، ولست أدعي أن مصر في أفضل أوضاعها إذ أن أمامها تحديات كبيرة ومشاكل متراكمة ولكنها أصبحت تملك الإرادة الحقيقية لمواجهة الصعاب خصوصاً وأنها تسعى لتشكيل رؤية عصرية لدولة ديموقراطية حديثة بعد عقود من المعاناة في كافة مناحي الحياة، ولست أشك في أن المحور المصري السعودي وبدعم من دول خليجية أخرى مثل الإمارات والكويت والبحرين وبمباركة من الأردن ومؤازرة من دول المغرب العربي فإن مصر ستتمكن من الإقلاع في النهاية للتحليق في آفاق المستقبل الواعد.
هذا طواف سريع بين عدد من المحاور التي تؤكد أن التيار القومي هو الأقدر على تنظيف الساحة العربية من المحاولات الخبيثة للعنف الإرهابي والتطرف الديني خصوصاً إذا كان التيار القومي عصرياً في مفهومه وكاسحاً في إندفاعه.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 30 يونيو 2014
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/837340/شباب/التيار-القومي-في-مواجهة-التعصب-الديني