تميَّزت «مصر» فى القرنين التَّاسع عشر والعشرين بنوع ممَّا يُمكن تسميتُه بالقوَّة النَّاعمة فى مجال الصحة العامة، فكانت «مصر» مقصدَ أشقَّائها العرب والأفارقة للعلاج، ولعل الإخوة السودانيين بشكل خاص أكثر من يعرف حقيقة هذه الظاهرة التى جعلت من الطبيب المصرى سلعةً نادرةً يقصدها الجميع طلبًا للعلاج مهما كانت ظروفه، ومازلنا نذكر أسماء الأعلام الكبرى فى ميدان الطب المصرى الحديث، بدءًا من «كلوت بك»، مرورًا بأسماء مثل «نجيب محفوظ باشا»، و«على باشا إبراهيم»، و«عبدالوهاب مورو»، و«مظهر عاشور»، و«عبدالله الكاتب»، و«محمد مجدى»، وصولاً إلى الجيل الجديد من أمثال «أسامة سليمان»، و«راضى سعد»، فى الجراحة، وغيرهما فى مجالات جراحة المسالك التى قد لا يعرف الكثيرون أن المفكر المصرى الكبير «وسيم السيسى» هو أحد رموزها، كما أن هناك أطبَّاء كبارًا عرفهم المجتمع المصرى، وذاع صيتهم، ولكن كانوا لا يجيدون لعبة العلاقات العامة والتأثير فى الشارع، وتحضرنى هنا أسماء كبيرة، مثل «إبراهيم بدران»، و«محمود محفوظ»، و«ممدوح جبر»، وغيرهم جميعًا من الكوكبة المُضيئة فى عالم الطب المصرى المُعاصر، وأنا أتذكَّر أننى عندما وصلتُ إلى «لندن» أوَّل مرَّة عام 1971؛ لألتحق بعملى فى القنصلية العامة هناك، وتقدَّمتُ للدراسة فى جامعة «لندن»، وجاء وقت اختبار اللغة الإنجليزية لكل المتقدمين من كل الجنسيات، فلفت نظرى أنهم قالوا يومها إن الطبيب المصرى لديه نفس مستوى الطبيب البريطانى وليس بحاجة إلى شهادة مُعادلة، بينما الأمر يختلف بالنسبة للطبيب الهندى الذى يحتاج إلى شهادة مُعادلة؛ لأن مستواه فى ذلك الوقت كان لا يرقى إلى مستوى الطبيبين البريطانى والمصرى، هكذا كان حالُنا، وتلك كانت قيمتُنا، وعندما تدهور التعليم المصرى بشكل عام تدهورت معه إمكانات الطبيب المصرى، وأصبح يعيش على ذكريات الآباء الكبار، فانكمش الدور المصرى إقليميًّا، وتراجعت مكانته التاريخية المشهود لها والمُعترف بها، وأصبحنا نقف وحدنا دون أن نُباشر ريادة المنطقة فى مجال كُنَّا فيه الأوائل، وأنا أعرف حاليًا كثيرًا من العرب الذين يذهبون للعلاج فى المصحَّات العربية والمستشفيات الغربية، ولكن بعضهم ممَّن كانت لديهم الفرصة للعلاج فى أى مكان فى العالم العربى قد اختاروا «دولة الأردن»، ولعلنا نتذكَّر بهذه المناسبة الرئيس السودانى الأسبق الفريق «سوار الذهب» الذى تنازل عن الحُكم طواعيةً، وأُجريت له جراحة القلب المفتوح فى العاصمة الأردنية، ويهمُّنى هنا أن أُسجِّل بعض الخواطر المهمة فى هذا الموضوع:
أوَّلاً: إن المصرى القديم فى العصر الفرعونى قد عرف «الطِّبابة» والتَّداوى قبل غيره، لذلك فإن تراكُم الخبرة التاريخية فى المستشفيات الجامعية المصرية كان –ولايزال- كفيلاً بتخريج أفضل الكفاءات وأرقى العقول وأكثرهم من خرِّيجى أقسام الجراحة فى الجامعات المصرية، أو لأكون صادقًا، فإن دوافع بعضهم قد لا تكون قاصرةً على الطب والنجدة الإنسانية، بل قد يرى البعض منهم أنها مُقدِّمة لمهمات سياسية لا أعرف حتى الآن لماذا يتصدَّرون المشهد قبل غيرهم ويستمع إليهم الناس دون سواهم؟! وفى ظنِّى أن الطب ليس وظيفة علاقات عامة بقدر ما هو أمر إنسانى رفيع لا يرقى إليه غيره من أصحاب الحرف مهما كان نُبل المقصد، وحُسن الدوافع.
ثانيًا: لقد أتاحت لى الأيام فى الأسبوع الماضى أن ألتقى الدكتور «مجدى يعقوب» لمدة ثلاثة أيام على التوالى أثناء حضورنا المُشترك لمجلس أمناء «مكتبة الإسكندرية»، واستمعت إلى الرجل، وحاورته بعيدًا عن الرَّسميات، واكتشفتُ فيه الإنسان المُهذَّب للغاية، الرَّقيق بغير حدود، وذلك نموذج لا أجد له نظيرًا فى الطب المصرى المُعاصر.
ثالثًا: إن التَّفرقة فى السنوات الأخيرة تبدو واضحةً بين من يُؤدِّى عمله بالكامل أو ينشطر عن الأصول، وأنا ممَّن يظنُّون عن صدق أن مشكلات «مصر» جميعها فى حاجة إلى المُتخصصين فى العلوم السلوكية وشخصيات الشعوب، وأظنُّ أن اسمًا كبيرًا مثل «أحمد عكاشة» رئيس الاتحاد الدولى للطب النفسى، يُمكن أن يكون مصدرًا للعرض عليه والاستماع منه، وليس غريبًا فى أن تأتى كوكبة من أهل الفكر والثقافة من مسقط رأسى ليطلبوا مِنِّى أن أكون مُرشَّحهم للإشراف على جمعية اجتماعية جديدة، ولم أفعل ذلك، ولكننى آثرت المُضىَّ إلى منزلى مُتأمِّلاً ما جرى لنا، ومُقلِّبًا فى دفتر أحوالنا، حتى عجزتُ عن الإجابة بالنسبة للاثنين معًا، ويكفى أن نعلم أن المستشفى الأمريكى فى «بيروت»، والمراكز الطبية الملكية فى «عمان» – «الأردن»، فضلاً عن الإمكانات الهائلة لدى أطبَّاء الخليج، خصوصًا فى «المملكة العربية السعودية»، قد أصبحت كلها متوفرةً على نحو قد تتضاءل معه الإمكانات المُتاحة لأطبَّاء الدولة المصرية الذين يغزلون نسيج الوطن المُتميِّز بأقل الإمكانات، فالطبيب المصرى لا نظير له شريطة أن تتوفَّر أمامه الإمكانات الحديثة مع علم الهندسة الطبية، فضلاً عن حاجته إلى جيش مُتماثل فى مجال التمريض.
هل يستعيد الطبيب المصرى مكانته، وتعود مدرسة الطب المصرية لكى تكون هى الرائدة فى المنطقة من جديد؟
د. مصطفي الفقي;
مجلة 7 أيام العدد 276
تاريخ النشر: 1 مايو 2018
رابط المقال: https://www.7-ayam.com/%d9%85%d8%af%d8%b1%d8%b3%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b7%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b5%d8%b1%d9%8a%d8%a9/