ترددت عبر العقود الماضية أحاديث ودراسات حول القدرات النووية العربية واحتمالات المستقبل أمامها في ظل المشهدين الدولي والإقليمي حالياً، وأنا ممن يظنون أن القدرات النووية ليست عاملاً للردع فقط ولكنها أيضاً تعبير عن كبرياء الوطن وقيمته الدولية، وأطرح هنا المحاور التالية:
أولاً: تتحدد قدرات الأمم وإمكانات الشعوب من خلال قدرتها على الدفاع عن نفسها وصيانة أمنها القومي وحماية مصالحها العليا، ولا يتحقق لها ذلك إلا بقدرات عسكرية معترف بها ومشهود لها لأننا في عالم لا يتحقق فيه العدل ولا تُنال الحقوق إلا بمنطق القوة سواء باستخدامها أو التلويح بها، فما أكثر القضايا العادلة التي لا يتمكن أصحابها من الحصول على ما يستحقون لأن الطرف الآخر يغتصب ويعربد ويحتل الأرض ويدوس المقدسات تحت سمع وبصر الدنيا ضارباً بالشرعية عرض الحائط، لمجرد أنه يستطيع أن يفعل ذلك وهو بعيد عن الردع وفي مأمن من العقاب، وأنا لا أدعو بذلك إلى أن تتحوَّل الدول إلى «ترسانات» للأسلحة أو أن تكتم على أنفاس قواتها المسلحة، ولكنني أحذر من التفريط في الحقوق أو التهاون في حيازة القوة لأنها طريق الحصول على الحق وتحقيق العدل، لذلك لم أدهش من الإشارات المتكررة للكاتب العربي جهاد الخازن حول أهمية تبني بعض الدول العربية مشروعاً نووياً كبيراً آن الأوان لتحقيقه في مواجهة الترسانة النووية الإسرائيلية التي تملك أكثر من مئتي رأس نووي في أكثر الإحصاءات تواضعاً امتداداً لمشروعها النووي الذي بدأته بمفاعل «ديمونة» والذي أقامته بدعم من فرنسا منذ خمسينات القرن الماضي، وكان عراب المشروع هو شمعون بيريز تلك الشخصية المثيرة للجدل في التاريخ الإسرائيلي والذي أصبح رئيساً للوزراء وبعدها رئيساً للدولة إلى أن تقاعد في سن متقدمة، ونحن نطرق هذا الموضوع لأننا نؤمن أن السلاح النووي - بغض النظر عن مخاطره وتكاليفه ومصاعبه - هو الذي يعطي الأمة قيمة ومكانة في عصر تلوح فيه التهديدات الخارجية والداخلية على نحو غير مسبوق.
ثانياً: إن استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية بدءاً من توليد الكهرباء وصولاً إلى تحلية مياه البحر مروراً بعشرات العمليات الحيوية الهامة للمجتمعات الحديثة أصبحت كلها ضرورة لا يمكن إغفالها، فبلد مثل فرنسا يمثل الحجم النووي فيها ثمانين في المئة من الطاقة المولدة على أرضها، ناهيك عن حقيقة لا تغيب عن ذهن المتخصصين في الشأن النووي وهي أن الفارق بين الاستخدام السلمي للطاقة النووية وبين تصنيع السلاح النووي لم يعد فارقاً كبيراً لأن التكنولوجيا النووية أصبحت في متناول الجميع تقريباً ولم تعد سراً مغلقاً على الدول الأعضاء في النادي النووي وحدها، ولقد اكتشفت من خلال عملي لسنوات مندوباً لمصر في الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن المعونة الفنية الناجمة عن تلك الطاقة أكبر بكثير من الاستخدامات الأخرى ذات الطابع الاستراتيجي أو العسكري، لذلك فإن الحظر الغربي على المشاريع النووية هو حظر على التقدم والتنمية وفتح آفاق واعدة أمام المستقبل في الدول التي تعاني نقصاً في الطاقة وما أكثرها، ولقد تابعنا جميعاً تطور الملف النووي الإيراني وانتقاله إلى مراحل تخصيب اليورانيوم وإعداد الوقود النووي، وأنا ممن يظنون أن الهدف الإيراني استراتيجي عسكري بالدرجة الأولى ومن الصعب تحريم ذلك على إيران بينما سمح الغرب بوجود ترسانة نووية في «إسرائيل»، ولن يبقى العرب كالأيتام على مائدة اللئام محصورين بين برنامجين نوويين يمثلان معاً أداة ردع - ولو معنوي - تظل سيفاً مسلطاً على رقاب العرب في المستقبل.
ثالثاً: لقد فوجئت منذ سنوات بعد مقال كتبته عن ضرورة قيام مشروع نووي عربي بمسؤول أميركي كبير يطلب مقابلتي أثناء زيارته القاهرة، وعندما زارني في مكتبي كان يحمل معه ترجمة إنكليزية لمقالي المشار إليه، وتأكدت يومها كيف أن موضوع حيازة سلاح نووي عربي هو أمر يمثل كابوساً للغرب وإسرائيل قبله، وهل ننسى تساقط علمائنا في هذا المجال بدءاً من سميرة موسى وصولاً إلى يحيى المشد، بل لقد سمعت أخيراً أن عالمة مصرية مرموقة كانت مساعدة للدكتور المشد قد لقيت حتفها أيضاً عند عودتها الأخيرة على طائرة تابعة لشركة «مصر للطيران» التي أسقطت في المياه الإقليمية الأميركية عند مغادرتها مطار نيويورك إلى القاهرة! وأصرت سلطات الطيران المدني الأميركية وقتها على أن الطائرة سقطت لأن قائدها قرر الانتحار بها! وأريد أن يتذكر الجميع أن مصر بدأت برنامجاً نووياً في خمسينات القرن الماضي تحت إشراف السيد صلاح هدايت ولكن نكسة 1967 أوقفت المسيرة بالكامل وقنعت مصر بمفاعلات صغيرة لأغراض بحثية فحسب، ويقولون لنا دائماً عند التفكير في إنشاء محطات نووية كبيرة أن «الأمان النووي» مسألة معقدة ويعيدون تذكيرنا بكارثة تشيرنوبيل والمخاطر المحتملة علينا في هذا الشأن، كما يكررون قصة استفتاء الشعب النمسوي الذي أدت نتائجه إلى إيقاف محطات الطاقة النووية بإرادة شعبية حرصاً على سلامة البلاد! ونسي هؤلاء وأولئك أن دولتين كبيرتين تنتميان إلى عالم الجنوب هما الهند وباكستان أصبحتا دولتين نوويتين على رغم فقر الموارد وضغط العبء السكاني لأن حيازة برنامج نووي في الغابة الدولية المعاصرة أصبح ضرورة، ولقد وقف الباكستانيون على أطراف أصابعهم لأسابيع قليلة فاصلة بعد التفجير النووي الهندي إلى أن تمكنت باكستان من إتمام التفجير النووي بنجاح وحيازة ما أطلق عليه الغرب «القنبلة النووية الإسلامية».
رابعاً: هل يتصور عاقل أن الإمكانات المادية العربية الهائلة لم يتم توظيفها أو جزء يسير منها لإنتاج سلاح نووي بينما يتمتع به الآخرون، بل إن دولاً فقيرة نسبياً تمكنت من الحصول عليه بينما نحن نراقب المشهد في قلقٍ ودهشة لأننا نرى سياسة ازدواج المعايير والكيل بمكيالين تسيطر على عالم اليوم. لقد قال المدير العام الأسبق للوكالة الدولية للطاقة الذرية هانز بليكس ذات يوم أثناء زيارته القاهرة - وهو ديبلوماسي سويدي كان وزير خارجية بلاده قبل أن يصبح مديراً عاماً للوكالة لمدة 16 عاماً متتالية - قال إن في مصر قاعدة علمية تتمثل في حشد من علماء الطاقة النووية ولا تنقصها الإمكانات التي يملكها أشقاؤها في دول الخليج بصورة تسمح بدخول العرب عالم الطاقة النووية من أوسع الأبواب، ولم يعد سراً أن هناك حظراً مستتراً تجاه أية محاولة عربية لحيازة سلاح نووي، بينما تمتلك إسرائيل منه ما يكفي لتدمير المنطقة، فضلاً عن سياسة الردع المستمرة من جانب إسرائيل، ويكفي أن نتذكر أن غولدا مائير قد هددت باستخدام «قنبلة نووية نظيفة» ضد مصر عندما حدثت «ثغرة الدفرسوار» عام 1973، وذلك فضلاً عن الحصار المضروب على الخبراء العرب في مجال الطاقة النووية، وقد تمت مؤخراً تصفية جسدية لعدد منهم في سورية في زحام الأحداث في ذلك البلد العربي الذي يواجه تحدياتٍ من كل اتجاه، وتلك كلها مؤشرات إلى المخاطر التي تتعرض لها المنطقة ويدفع العرب «الفاتورة» في كل الأحوال.
خامساً: لا تتردد إسرائيل بين حينٍ وآخر في التلويح بوجود «ترسانة نووية» لديها وحيازة أسلحة للدمار الشامل، وإذا تسربت معلومات أكثر فإنهم لا يؤكدون ولا ينفون ويتركون الأمر مفتوحاً لكل التصورات في محاولة لإرهاب الجيوش العربية وتأكيد أهمية «سلاح الردع» الذي يتفردون بملكيته في المنطقة، وقد نشرت صحيفة «معاريف» الإسرائيلية مؤخراً تقريراً يحوي تفاصيل لما تملكه إسرائيل من صواريخ عابرة للقارات تحمل رؤوساً نووية وغواصات وطائرات ضمن السلاح النووي الإسرائيلي، ولقد حافظت إسرائيل في العقود الماضية على حالة من الغموض حتى تترك للتكهنات تقدير حجم ترسانتها النووية، ولكن هناك دراسة أميركية حديثة أكدت أن لدى إسرائيل سلاحاً نووياً مجهزاً بصواريخ يمكنها أن تصل بسهولة إلى إيران وإلى غيرها من الدول العربية عند الحاجة، وعندما يفكر العرب في هذه المعلومات الإسرائيلية الاستفزازية يدركون خطورة السلاح النووي وأهميته، بل إن بعض الدراسات تؤكد أن لدى إسرائيل 400 رأس نووي وليس 200 فقط كما كنّا نتصور، ولذلك فإن الحصاد النهائي لدراسة موضوعية للوضع في الشرق الأوسط تؤكد أن إسرائيل ماضية بقوة في تعزيز ترسانتها النووية - خارج مظلة الوكالة الدولية للطاقة الذرية - كسلاح رادع يفرض الأمر الواقع في كل الظروف، ولا مانع لديها في الوقت ذاته من دعم جماعات إرهابية مثل «داعش» وأخواتها لتقويض دعائم دول المشرق العربي بل وغيرها في المنطقة وتفكيك أوصال تلك الدول والقضاء على مفهوم الدولة المركزية لديها. إن ضرورة قيام برنامج نووي عربي أصبحت ملحة للغاية حتى تكون هناك رسالة عربية تعيد التوازن الاستراتيجي للمنطقة وتحول دون قيام إسرائيل أو غيرها بمغامرة نووية ضد بلدٍ عربي تحت أي مسمى، وحسناً فعلت بعض الدول العربية بامتناعها في المقابل عن التوقيع على اتفاقية منع الأسلحة الكيماوية!
هذا طواف سريع حول همّ قومي مؤلم هو نتيجة طبيعية لسياسة ازدواج المعايير والكيل بمكيالين في ظل مجتمع دولي لا يعرف إلا القوة مهما كان الحق واضحاً أو العدل مطلوباً!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 17 نوفمبر 2014
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/821024/شباب/نحو-مشروع-نووي-عربي