يواجه العرب، ربما للمرة الأولى في تاريخهم الحديث، مجموعة معقدة من التحديات التي تصل إلى درجة المخاطر المشتركة، وبعضها يتصل بتاريخ المنطقة والبعض الآخر بموقعها الجغرافي، ولكن المؤكد هو أن ما يحتويه المستقبل العربي هو جزء لا يتجزأ من مستقبل العالم المعاصر، إذ إن هناك متاعب متوقعة وأزمات قادمة واضطرابات مستمرة ولعلنا نسوق بعضها فيما يلي:
أولاً: إن الاجتياح الإرهابي لعالم اليوم يعكس بالضرورة الجانب المظلم من مستقبل الشرق الأوسط بل والعالمين العربي والإسلامي بل وربما العالم المعاصر كله أيضاً. إن «الإرهاب» هو «طاعون العصر» والداء الذي يطيح بالاستقرار ويستهدف أمن الشعوب، ويؤدي إلى ترويع الآمنين. إننا أمام شيطان أسود يرفع شعاراتٍ كاذبة ويتمسّح بالإسلام ليبرر القتل والرجم والسبي والنزوح القسري والضغط على شعوب المنطقة لإعاقة مسيرتها وضرب التنمية فيها والخروج بها إلى منعطف لا يعلم إلا الله نهايته. وفي ظني فإن مكافحة «الإرهاب» قضية عصية على الحل، فيها تداخل بين التاريخ والجغرافيا، بين الدين والسياسة، بين القوى النظامية والجماعات الظلامية. إنها تبدو كلعبة الفيل والفأر، فالأخير على رغم ضآلة حجمه قادرٌ على أن يسبب المتاعب للفيل على رغم ضخامة وزنه، ولا بد أن ندرك أن الإرهاب ليس مجرد خطر داهم ولكنه مثل السرطان يدمر الخلايا السليمة ويخترق الأجهزة القوية وينهي إمكانات المناعة لدى المجتمعات والشعوب والأوطان. ولا شك أن أساليب مواجهته لا تقف عند حدود التعامل بالقوة فقط بل تتجاوز ذلك إلى ضرورة إيجاد أساليب أشد تأثيراً من خلال الإجراءات الوقائية التي تحمي المجتمعات خصوصاً الشباب فيها من خطر ذلك المرض اللعين وذلك بتجفيف منابع الموارد المادية والعناصر البشرية، ثم يمتد الأمر بعد ذلك إلى الجانب العلاجي في مواجهة التطرف، وهنا نشير إلى أهمية الفهم المتبادل بين أصحاب الثقافات المختلفة أو المنتمين إلى حضارات متباينة أو حتى الديانات التي يدين بها الأفراد، ولا أقصد هنا المصالحة بمعناها السطحي أو مفهومها الشكلي، ولكن ما نهدف إليه ونسعى لتحقيقه هو أكبر من ذلك بكثير. إننا محتاجون إلى النظر في برامج التعليم وأساليب التربية ودور المؤسسات الدينية في التوعية وخلق الصحوة التي تواجه «الإرهاب» وتصنع التنشئة الصحيحة للأجيال الصاعدة. إن المؤسسات الدينية والثقافية والمراكز البحثية مسؤولة في مجملها عن تشكيل شخصية الإنسان العصري الذي يدرك قيمة الحياة ومعنى الوجود فيها، كما أن الآداب والفنون تلعب دوراً حاكماً في هذا السياق. إن الإرهاب في ظني هو الخطر الأول الذي يستهدف المواطن العربي ويحاول الإطاحة بمستقبله بعد تدمير حاضره، ولكن يجب أن نسجل هنا أن «الإرهاب» لم يقم نظاماً ـ عبر التاريخ ـ ولم يهدم دولة، إنما هو يعكر صفو المياه ويصنع المتاعب ولكنه لا يستطيع أبداً الحكم لأنه يمثل انطلاقة عشوائية وتفكيراً عاجزاً ونظرة سوداء.
ثانياً: إن الخطر الصهيوني المتمثل في الاستيطان السرطاني لدولة إسرائيل كان ولا يزال واحداً من أبرز المخاطر المشتركة لا ضد الشعب الفلسطيني وحده ولكن ضد كل شعوب الجوار إن لم تكن الأمة بأسرها، فإسرائيل تسعى إلى إضعاف العرب وإلى تمزيق وحدتهم والتسلل بين صفوفهم بكل الوسائل التي تجيدها بعد قرابة قرن كامل من الصراع الدامي الحافل بالمواجهات والحروب، ولعلنا نتصور المنطقة العربية إن لم تكن إسرائيل موجودة لندرك حجم المعاناة التي تعرض لها العرب من تلك الدولة التي غرسها الغرب في قلب الوطن العربي، بل وأكثر من ذلك ليجعل منها جسراً لتكريس التخلف وخلق الفرقة في المنطقة كلها، وقد يقول قائل إن الخطر الإسرائيلي يتراجع بفعل اتفاقيات السلام ومحاولات التهدئة ولكن ذلك ليس صحيحاً، إذ إن الواقع يقول غير ذلك، فإسرائيل ركيزة تبث سموماً ثقافية وفكرية وتحصد كل يوم امتيازاتٍ جديدة، إذ يكفي أن نتأمل دورها حالياً وهي تتلفت حولها فترى العراق في محنة وسورية في كارثة ودولاً أخرى في مأساة. إنها تحقق مكاسب مما يصيب العرب من انتكاسات، إذ إن إنجازات إسرائيل التاريخية هي نتاج ضعف العرب وليست بسبب قوتها هي عسكرياً وإعلامياً، ومن الملاحظ في السنوات الأخيرة أن إسرائيل ماضية في سياساتها بغض النظر عما يفعله الآخرون. إنها تندفع كالقطار من دون الأخذ في الاعتبار أية عوامل إنسانية أو أخلاقية. ولذلك فإننا لا نزال نرى أن الخطر الإسرائيلي يلي مباشرةً ظاهرة «الإرهاب» التي اتفقنا على أنها تمثل الخطر الأول الذي ينال من المنطقة بأسرها.
ثالثاً: لقد برزت الأجندة التاريخية لإيران في العقود الأخيرة وظهرت نواياها باستخدام أدواتها كافة للتأثير في جيرانها وإعادة ترتيب الأوضاع في منطقة الخليج والمشرق العربي وفقاً لأهوائها. إنها ترتدي عمامة الإسلام وفي الوقت نفسه فإن جوهر سياستها الخارجية قومي فارسي بالدرجة الأولى، وهي تملك واحدة من أنجح السياسات الخارجية في المنطقة، فلقد وظفت الملف النووي ببراعة شديدة واستطاعت أن تجعل نفسها كما لو كانت هي المتحدث الرسمي الوحيد الذي يتحمل مسؤولية رسم مستقبل الشرق الأوسط من خلال حوار منفرد مع واشنطن من ناحية والدول الأوروبية من ناحية أخرى، ولقد نجحت إيران إلى حد كبير في تحقيق أهداف حيوية في المنطقة العربية، فقد كانت ولا تزال حليفة للدولة السورية في ظل الميزة النسبية للطائفة العلوية في الحكم في دمشق، كما أن ظهور «حزب الله» في لبنان أضفى هو الآخر على إيران قوة إضافية للمنطقة وأصبح تقريباً امتداداً لها أكثر مما هو عنصر أساسي في السياسة اللبنانية، لذلك فإن إيران تسعى إلى السيطرة الخفية على بعض دول الخليج، ومن أبرز تصرفاتها في هذا السياق احتلالها الجزر الإماراتية الثلاث وتحريكها الاضطرابات في البحرين، لذلك خرجت أصوات عربية، في السنوات الأخيرة، تساوي في الخطر بين الكيان الصهيوني والتمدد الإيراني، وعلى رغم تحفظنا على هذا التصور إلا أننا لا نقلل من حجم المخاطر الإيرانية على الواقع العربي ومستقبل المنطقة. وأتذكر ما بثته بعض الأجهزة الإعلامية الإيرانية أخيراً من أن سقوط صنعاء في أيدي الحوثيين هو سقوط لرابع عاصمة عربية لصالحهم، وهناك مدرسة ديبلوماسية في بعض العواصم العربية تشتط في تصويرها لكل ما يجري في المنطقة وترى أن إيران تكمن وراء كل خطرٍ يستهدف الدول العربية خصوصاً منطقة الخليج ويتخذ من نشر التشيّع ستاراً للتحرك السياسي على حساب استقرار تلك الدول وأمن شعوبها. كذلك فإن الخطر النووي الإيراني تجسد بصورة مبالغ فيها وأصبح العرب يشعرون أنهم محاصرون بين برنامجين نوويين أحدهما في إسرائيل والثاني في إيران، ولكنني لا أرى من العدالة السياسية أو الفكرية المساواة بين الخطرين الإسرائيلي والإيراني، فإسرائيل خطر رئيسي، وإيران خطر ثانوي، وإن كان البعض يرى غير ذلك لأسبابٍ تتعلق بتاريخ العلاقة بين القوميتين العربية والفارسية فضلاً عن الإحساس الشعبي بضرورة التحدث عن الفروق بين السنّة والشيعة في شكل مبالغ فيه ولا مبرر له.
رابعاً: إن الدولة التركية قد بدأت تستعيد في العقود الأخيرة جزءاً من تاريخها القديم وإرثها العثماني، وإذا كانت دوافع إيران سياسية بالدرجة الأولى فإن دوافع الأتراك بدأت اقتصادية بالدرجة الأولى على الجانب الآخر، حيث توهموا أن بمقدورهم أن يعيدوا الروح التاريخية لسلطنة آل عثمان وتخيلوا أن سيطرتهم على دولٍ عربية تعطيهم أوراق اعتماد قوية في دخول الاتحاد الأوروبي الذي أصبح حلماً بعيد المنال، وهنا لا يجب أن نتجاهل أن تركيا دولة عضو في حلف الأطلسي وأنها قدمت خدماتٍ لوجيستية لبعض التنظيمات التي أصبحت إرهابية بدعوى نصرة «الثورة السورية»، كما أن الأتراك اكتشفوا أن الدين الإسلامي يمثل غطاءً للديبلوماسية التركية في مسعاها الجديد، فظهر مشروع أردوغان وحزبه الذي كان يتصور أن بإمكانه أن يسيطر سياسياً على العالمين العربي والإسلامي بمشروعٍ دوليٍ جديد تلعب جماعة «الإخوان المسلمين» دوراً أساسياً فيه، ولكن تظاهرات 30 حزيران (يونيو) 2013 في مصر أحبطت ذلك المشروع بحيث أصبحت الأمور تتحرك على غير ما يشتهي الأتراك، وتبددت إلى حدٍ كبير أحلام «السلطان العثماني الجديد» رجب الطيب أردوغان! ولا شك أن حالة التمزق في المنطقة تغري القوى الإقليمية الثلاث بمحاولة نهش الجسد العربي في ظل انشغال مصر بأوضاعها الداخلية وحربها على «الإرهاب» في سيناء، وتخلق هذه الحالة مشكلات دائمة لدول الخليج، في وقت تجري فيه محاولات لتقسيم العراق وسورية وتقطيع أوصال الدولة الليبية أيضاً ... إننا أمام أوضاع غير مسبوقة في تاريخنا الحديث.
هذه قراءة في دفتر الأحوال العربية نتلمس منه طبيعة المخاطر المحيطة بنا من كل اتجاه، وليس أمامنا والحال كذلك إلا الاعتصام بالروح القومية والعمل العربي المشترك في يقظةٍ عصرية تتيح لنا الخروج من الظرف الراهن بكل تحدياته وأزماته ومخاطره.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 12 يناير 2015
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/826661/شباب/العرب-في-مواجهة-التحديات-والمخاطر-المشتركة