كُتب علينا أن نسدد الفواتير دائماً، بل أن ندفع مقدماً، فالغرب يدعم صدام حسين في مرحلة معينة ثم نسدد نحن فاتورته. الغرب يعطي معمر القذافي مساحة حركة ونسدد فاتورته. يصنع الغرب من المقاومة الإسلامية في أفغانستان تنظيم «القاعدة» فندفع الفاتورة له مرات عدة، ثم يستثمر الوضع في سورية خلال السنوات الأربع الأخيرة ليهدينا تنظيم «داعش» ونسدد أيضاً الفاتورة داخلياً وخارجياً. إننا أمام مشهد عبثي واضح يحاول فيه الغرب أن يجعل من المسلمين والعرب كبش الفداء لحل مشكلات العصر، من ترويج للأسلحة الجديدة إلى سلب للأموال المتراكمة وصولاً إلى إحكام السيطرة على دول يجري تقسيمها وضرب استقرارها. ولا شك في أن الدولة العبرية هي الرابح الرئيس في المقدمة، وهذا يدعونا إلى تأمل الملاحظات التالية:
أولاً: بدا واضحاً منذ ظهور «الإسلام السياسي» واستغلاله من جانب جماعات متطرفة وتصاعد حدة الإرهاب، أن الرسالة وصلت إلى العقل الغربي الذي شعر بالخطر القادم، خصوصاً أنه فرغ من المواجهة مع الاتحاد السوفياتي السابق وخرج من أجواء الحرب الباردة، فبدأ من جانبه محاولات التحرش السياسي والاستفزاز الديني ضد الإسلام والمسلمين في العقود الأخيرة، وقد سقط الغرب في وهدة التعميم وأصبحت معايير تعامله مع الظاهرة الإسلامية واحدة، فلا يكاد يفرق بين متشدد ومعتدل، وكان من نتيجة ذلك أن بدأت المواجهة الساخنة والتصعيد المستمر، وأصبحنا نحن العرب دافعي الفاتورة دائماً! فالعربي هو المتهم الأول في أي عمل إرهابي، وهو الذي يقف في طابور تأشيرات السفر أسابيع أو شهوراً ويجرى له تفتيش خاص في المطارات، فهو «المشبوه» دائماً، ولا أستطيع أن ألوم الغرب على ذلك، إذ إن واقع الحال يثبت غالباً أن العرب والمسلمين هم الضحايا، لأن دينهم وقوميتهم يتم استغلالهما غطاءً للعنف والقتل والتدمير.
ثانياً: لقد جرى استثمار ظروف ثورات الربيع العربي على نطاق واسع لتطويق المنطقة وتقسيم دولها وإضعاف دورها، لأن حالة الفوضى التي تسود عقب الثورات قدمت مناخاً ملائماً للتدخل الأجنبي لمواجهة موجات الإرهاب التي تكتسح دول المنطقة تحت مسميات مختلفة، بدءاً من تنظيم «القاعدة» و «داعش» وأخواتهما، وصولاً إلى القوى المحلية الكامنة، التي تستثمر أجواء الفوضى وتتحرك بشكل عشوائي لهدم أعمدة الدولة الوطنية في المنطقة العربية، وربما الإسلامية أيضاً، ولعل ما جرى في سورية والعراق وما يجري في اليمن وليبيا والمتاعب التي تواجهها مصر، تعتبر دليلاً عل صحة ما ذهبنا إليه.
ثالثاً: لقد جرى التحوّل الغربي في المواقف التي كانت تبدو ثابتة، ولا زلت أذكر شخصياً أنني عندما كنت أعمل مع الرئيس الأسبق حسني مبارك وألعب دور همزة الوصل بين الدولة والكنيسة القبطية، أي بين مبارك والبابا الراحل شنودة الثالث، أتذكر وقتها أنه لو قذف شخص حجراً صغيراً على كنيسة لقامت الدول الغربية ولم تقعد، ولتلقينا تهديدات مباشرة من أعضاء الكونغرس الأميركي والبرلمان الأوروبي، أما بعد ثورة كانون الثاني (يناير) 2011 وثورة حزيران (يونيو) 2013، فقد سعت منظمات إرهابية ترفع شعارات إسلامية إلى تحطيم الكنائس المصرية وتمكنت بالفعل من الاعتداء على أكثر من سبعين كنيسة، سواء بالهدم أو النهب والسرقة، وعلى رغم ذلك لم يتحرك الغرب خطوة واحدة! وتأكدنا وقتها أن الغرب لا يدافع عن الأقليات المسيحية في الشرق الأوسط إلا إذا كان ذلك متفقاً مع مصالحه مصادفاً لهواه، بدليل أنه عندما تعارض أمن الأقباط المصريين مع ميوله لدعم التيار الإسلامي في مصر، متجسداً في حكم جماعة «الإخوان» وأنصارهم، لم يتحرك للدفاع عن الأقباط، لأنه حتى إذا كان يتعاطف معهم فهو يحب مصالحه أكثر، متصوراً أن ما يقدمه من دعم للتيارات الإسلامية في المنطقة سوف يصب في خانة دعم الأمن القومي للدولة العبرية إسرائيل. وقد أدرك المسيحيون العرب أنهم مجرد ورقة يلعب بها الغرب ولكنه لا يقف معهم بجدية في اللحظة الحرجة ويتركهم نهباً لقوى التعصب والتطرف والإرهاب.
رابعاً: لقد أجريت محاولات غربية لدفع فواتير استباقية، بدعوى حماية «الثورات العربية» والإبقاء على الوجود الغربي في المنطقة، بل والمضي في استنزاف ثرواتها على نحو غير مسبوق، فالعرب يشترون السلاح بأرقام فلكية، ليُستخدم ضد مواطنينا عند اللزوم، فنحن مطالبون دائماً بتبرير مواقفنا وتبرئة دورنا، ثم تكون فاتورة الحرب والسلام أو التطرف والاعتدال أغلى الفواتير جميعاً، ولا بد أن نعترف هنا أن الولايات المتحدة الأميركية محكومة في سياستها في الشرق الأوسط بأمن إسرائيل، وربما بحماية منابع النفط كذلك، فلا تتحرك إلا خضوعاً لهذين الاعتبارين. لقد جرى تهجير قسري للمسيحيين في العراق ونزوح طوعي للموارنة من لبنان مع أرقام عالية لخروج الأقباط المصريين في السنوات الأخيرة، ولكن الغرب اكتفى هذه المرة بتصريحات الشجب وبيانات الإدانة ولم يتجاوز ذلك كثيراً!
خامساً: إن أوضاع الجاليات الإسلامية في الدول الغربية عموماً والأوروبية خصوصاً، سوف تتأثر بالضرورة، بحيث تقع على أكتافهم أعباء جديدة لفواتير مستحقة ثمناً لأخطاء لم يرتكبوها، بل ربما عانوا منها، وتلك خطيئة إنسانية يقع فيها الغرب نتيجة عملية التعميم مرة ثانية وأخذ الناس بالشبهات، وقد يكون لهم العذر في ذلك، ولكن ما ذنب العربي أو المسلم لكي يدفع الفاتورة عدة مرات؟! وبدلاً من أن يدرك الغرب وسلطاته الأمنية أن الجاليات الإسلامية شريكة حياة وقدر ومصير، لأنها أصبحت جزءاً لا يتجزأ من المجتمعات التي تعيش فيها، لا يدرك الغرب ذلك، بل يمضي في مواجهة التعصب بتعصب آخر، ويكفي أن نتذكر رد فعل المجلة الفرنسية بعد الهجوم الإرهابي الغادر عليها -الذي نشجبه وندينه لأقصى درجة-، لكن رد فعل المجلة لم يكن متماشياً مع الروح الدولية لإدانة الإرهاب ورفض التعصب والتطرف، فإذا بها تطبع ملايين النسخ من العدد الجديد للمجلة، واضعة في صدر صفحته الأولى هجوماً جديداً على الإسلام ورسوماً مسيئة لرسوله! وكأنما هي تواجه الإرهاب بعناد يسيء إلى بليون وثلاثمئة مليون نسمة من المسلمين في العالم، معظمهم يرفض ما جرى للمجلة ويدين الإرهاب بشدة، بل ويعاني منه ويدفع فاتورته! ولقد سمعت مؤخراً عن سيدة عربية كانت تتسوق في أحد المحال التجارية في باريس فقذفتها مواطنة فرنسية بزجاجة مشروب، ولحسن الحظ لم تصب السيدة بأذى، لكن الدلالة الرمزية لذلك الحادث البسيط هي أن التعبئة الإعلامية الغربية صنعت من العرب والمسلمين كبش فداء وهم أبعد ما يكونون عن الإرهاب، بل هم أكثر من عانى منه وكانوا أول ضحاياه!
سادساً: إن محاولة تعقيد السياسات الدولية أمام العرب والمسلمين والضغط على قضاياهم واستهداف مصالحهم لم يعد أمراً يمكن السكوت عليه طويلاً، لأنه يعني قهر الإرادة وقمع الشخصية العربية والمسلمة وتأجيج الصراع الذي نرفضه دائماً، فالحضارات تتعانق والثقافات تتقارب والديانات تهدف إلى السلام المشترك، كما أن تصنيف كل تيار سياسي عربي أو مسلم بأنه جماعة إرهابية، أمر ينطوي على ظلم حقيقي لكثير من القوى الإقليمية، فليست كل منظمة عربية هي «داعش» وليست كل منظمة إفريقية هي «بوكو حرام»!
سابعاً: إن الامتناع عن الاستماع الى صوت الاعتدال والتهويل في استقبال رسائل التطرف هو استهداف مباشر لا مبرر له ضد العرب والمسلمين، كما أن ذلك يمثل نوعاً من «الإرهاب العكسي»، إذ لا يمكن أن نواجه الإرهاب بإرهاب آخر، كما لا يمكن تجاهل معاناة شعوب العالمين العربي والإسلامي وفي مقدمها الشعب الفلسطيني، وكذلك المضي في تقسيم العراق وتمزيق سورية وتفتيت ليبيا وإشعال الفتنة في اليمن، كلها مظاهر للسعي نحو تحطيم القوى العربية والإسلامية حتى وإن قامت بذلك تنظيمات محلية ترتدي عباءة الإسلام وتضع فوق رأسها عمامته.
إنني أخشى أن نكون مقبلين على صراع ديني طويل يدفع فيه العرب أغلى «الفواتير» كما حدث لهم من قبل، ولا نريده أن يحدث مرة أخرى، فقد أصبح فينا ما يكفينا!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 26 يناير 2015
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/828376/شباب/العرب-يدفعون-فاتورة-مشاكل-العصر