قالت لمن حولها إنني أرى في الأفق البعيد أشجاراً تتحرك فسخروا منها ولم يهتموا بما تقول، بينما كان الجيش المقبل نحوهم يتحرك وهم لا يشعرون. تلك كانت قصة «زرقاء اليمامة» بتاريخها الأسطوري في التراث العربي الذي يدعو إلى اتخاذ الأمور بجدية ويعكس روح الأزمنة الماضية في فهم الحياة حتى تركوا لنا ميراثاً يعين في كثيرٍ من المواقف على إدراك طبيعة الأمور كأنه تلقين للحكمة من الأقدمين إلى أجيالٍ تمضي على الطريق. أقول ذلك وأنا أستشرف المستقبل وأريد أن أجد بين ملامحه ما يثير التفاؤل ويساعد على زرع الأمل بعد أن اضطربت الأحوال واختلطت الأمور وأصبح المشهد لا يرضي أحداً. إن «زرقاء اليمامة» عندما نظرت في الأفق فقد قدمت ببصرها الحاد معلوماتٍ لمن يملكون البصيرة، والذين يصدق عليهم قول الشاعر العربي: «أمرتكم أمري بمنعرج اللوى... فلم تستبينوا النصح إلا ضحى الغد». والمستقبل العربي في نظرنا مرهونٌ بإرادتنا الحرة وفكرنا الواعي ورأينا الثاقب، وهو أمر يطرح عدداً من الأفكار يمكن عرضها في النقاط الآتية:
أولاً: إن استقراء التاريخ حافلٌ بالقصص التي جاءت في الروايات الدينية أو السرد التاريخي في مختلف العصور بدءاً من محاولة ضرب الكعبة المشرفة قبل الإسلام مروراً بمذبحة المماليك في عصر محمد علي إلى محاولة إبادة الأرمن على يد غلاة الأتراك وصولاً إلى محرقة اليهود على يد هتلر، وكلها محطاتٌ مثل آلافٍ غيرها في مسيرة الإنسان على الأرض، ولكن دورة التاريخ تخبرنا بأن هناك حالات صعود وهبوط تجعل الحركة ممتدة عبر الأجيال، لذلك فإن قراءة الماضي هي التي تعين الباحث على استطلاع المستقبل، ونحن نعيش في منطقة جاذبة للأطماع مثيرة للتآمر، كما أن الضغوط الأجنبية لم تتوقف يوماً عن هذه المنطقة منذ بداية التاريخ، ونحن نتطلع إلى عقلاء الأمة الذين لا يملكون بصر «زرقاء اليمامة»، ولكنهم يملكون بصيرة الحكمة والرؤية الرشيدة. نقول ذلك وأمتنا العربية تبدأ صحوةً من نوعٍ خاص ربما لم تعهدها منذ عقود بعيدة، إذ يبدو أن التئام الشمل سيكون هو فاتحة العصر الجديد الذي تتحقق فيه بعض آمال الأمة وتطلعات شعوبها.
ثانياً: إن ملامح المستقبل العربي بدأت تتشكل بصورة تتسم بالوضوح والرشاد في الفترة الأخيرة، خصوصاً عندما دخلنا في مرحلة تطبيق منظومة «الدفاع العربي المشترك»، وهو أمر لم يكن معمولاً به عبر السنين. لذلك، فإنني أزعم أننا أمام تحول كبير في مسار العلاقات التي تحيط بنا وكل الأمور توحي بأن عصراً جديداً يشرق بشمسه على المنطقة العربية بسبب تكالب التحديات حولها وتزاحم المؤامرات التي أحاطت بها، فلقد اكتشفنا أن دول الجوار العربي ليست كلها حافظة حسنَ الجوار ولا مدركة درسَ التاريخ، إذ يتصور بعضهم أن حالة التردي العربي تمثل بالنسبة اليهم فرصة ذهبية للانقضاض على هذه الأمة بموقعها الاستراتيجي الحاكم وإمكاناتها المادية ومواردها الطبيعية، فضلاً عن أنها أرض الديانات وملتقى الحضارات وسبيكة الثقافات. إن منظومة العمل العربي المشترك، إذ تدخل مرحلة العمل العسكري فإنها تعطي الانطباع الدولي بالجدية واستعادة القوة وتأكيد القدرة على أن تكون شريكاً فاعلاً في سياسات الشرق الأوسط وليست مجرد أرقام معدودة في الواقع الإقليمي.
ثالثاً: إن العالم العربي، إذ يحتشد الآن بوعيٍ وراء قضاياه العادلة في مواجهة المخططات التي تسعى لضرب وحدته وتقسيم دوله سيمضي في الطريق حتى نهايته، لأنه أدرك - ولو متأخراً - أنه لن يحمي الوطن العربي إلا أبناؤه ولن يكون رصيداً له إلا جيوشه القوية وشعوبه الصامدة وشبابه الواعد. لقد تحركت المملكة العربية السعودية وخرجت معها مصر تشد كل منهما أزر الأخرى في مسيرة لتصحيح الأوضاع في اليمن، ذلك القطر العربي الغالي الذي يجب أن يظل «سعيداً» كما سماه السابقون، ولا شك في أن ذلك التدخل العسكري المحسوب إنما يخضع لضوابط قومية في مقدمها نجدة الشقيق وفيها أيضاً الرغبة في الحفاظ على وحدة أراضيه، وهنا يجب أن تنتبه أنظمة الحكم وأن يدرك أصحاب القرار أن التدخل العسكري بقدر ما ينجز من حلول فإنه قد يخلق أيضاً مشكلات، لذلك حسناً فعلت السعودية والدول المتحالفة معها في أن يكون تدخلها بدعوة مباشرة من الرئيس الشرعي للبلاد في ظل رأي عام يتمسك به ويرفض زحف الحوثيين على مفاصل الدولة وأعصاب الحياة فيها، ولعل النقطة الأكثر حرجاً في الأمر هي أن تكون هناك جماعة سياسية أو دينية مدعومة من قوى خارجية، عندذاك لا بد من أن يستنجد ذلك الشعب العربي بالأشقاء لأن المساس بالهوية أمر لم تقبله شعوب من قبل، فقد تقبل الشعوب القهر السياسي إلى حين وتقبل الضغط الاقتصادي فترة معينة، لكنها حين تشعر بأن هناك من يلعب بمفاصل الدولة ويعبث بهويتها فإنه لا تكون هناك حدود لحركة الشعوب في هذه الحالة، واضعين في الاعتبار أن أبناء اليمن هم جميعاً أشقاء عرب من دون تفرقة أو تمييز، ولكن حين يدس غير العربي أنفه في الشأن الداخلي لليمن، فإننا نكون أمام معادلة صعبة تقتضي التدخل لنجدة الشقيق وللحفاظ على الأمن القومي العربي الذي لا يتجزأ.
رابعاً: إن الأمة العربية تملك الكثير من العقول المبهرة والسواعد القوية، فضلاً عن موارد وفيرة وإمكانات ضخمة، ومن غير المقبول أن يتحول كل ذلك إلى كيان هش تمزقه الفرقة وتنهشه التدخلات الأجنبية، وقد آن الأوان لصحوة قومية بدأت بوادرها في ظل الأوضاع الصعبة في سورية والعراق وليبيا واليمن وغيرها من الدول العربية التي عانت في السنوات الأخيرة كما لم تعانِ من قبل، وعندما تتكاثر السحب وتتكاتف التحديات، فإن الأمم تستيقظ والشعوب تصحو دفاعاً عن ترابها الوطني وتسعى نحو إعمال العقل وخلق منظومة فكرية توازي المنظومة الدفاعية القائمة، فالعقل هو صانع التاريخ وهو القوة التي تشيد المعجزات في كل عصر، ولن يتحقق لنا ما نريده في حاضرنا ولا مستقبلنا إذا كنّا نقف ممسكين بتلابيب الماضي نبكي على اللبن المسكوب ونتطلع إلى غيرنا ليأخذ بيدنا، وقد أثبتت الأيام أنه لا توجد في عالمنا خدمات مجانية أو مواقف عشوائية، فكل شيءٍ يبدو محسوباً وكل المواقف توحي أن ما جرى وما يجري إنما تقف وراءه عقول تفكر وقيادات تدبر وتطلعات تطفو على السطح من وقتٍ لآخر.
خامساً: إن جامعة الدول العربية هي الوعاء التنظيمي والإطار القانوني للسياسات العربية والمصالح القومية، لذلك يجب دعمها والانتقال بها من مرحلة الكم إلى مرحلة جادة يسيطر فيها فكرٌ جديد، فالمنظمة العربية القومية هرمت وأصبحت في حاجة إلى فكر جديد وروح مختلفة وتفكير عصري بحيث تصبح قادرةً على مواكبة التطورات الدولية والإقليمية على النحو الذي يحتاجه العرب في هذه المرحلة التي تبدو مختلفة عن الماضي بكل تداعياته وملابساته. إن الجامعة العربية يجب أن تعطي معظم اهتمامها للقضايا الرئيسية فلا يتصور أبداً أن يُجرى اختزال مشكلات الجامعة في شخص أمينها العام، فالمشكلة أكبر وأعمق من ذلك بكثير.
هذه بعض المحاور نستعرضها في ظروف قومية ذات طابع خاص يدخل فيها العمل العربي المشترك مرحلة جادة تقتضي حسابات جديدة، إذ إن هناك عوامل مركبة أدت إلى الوضع العربي الراهن في مقدمها ثورات الربيع العربي والتدخلات الملحوظة من إيران وتركيا فضلاً عن التعنت الإسرائيلي المتصل، والذي يقوم على سياسات لم تتوقف قط لأنها تتميز بالعنصرية والعدوانية وإنكار الشرعية الدولية، ويأتي قبل هذه العوامل وفوقها عامل حاكم هو تلك الموجة الإرهابية التي وفدت على المنطقة في العامين الأخيرين تحت مسمياتٍ تحمل في طياتها نوازع الشر وأسباب التهلكة. إنه الإرهاب الذي يستخف باستقرار الشعوب وسلامة أبنائها ويعيث في الأرض فساداً فيقتل ويذبح من دون حدود في ظل فهم مغلوط للإسلام وتقديم صورة مشوهة عنه، بحيث أصبحت مسؤوليتنا الجماعية هي مواجهة الإرهاب في جانب، والحد من تداعياته في جانب آخر. لذلك، فإن الغفوة في مثل هذه الظروف غالية الثمن فادحة النتائج. إننا نتطلع إلى مستقبلٍ تكون فيه للعرب كلمة عليا تتحقق بها إرادتهم وترتفع كلمتهم في ظل برنامج نووي سلمي وقوة عسكرية مهابة واقتصادٍ منيع يسمح لهم بأن يكونوا كياناً فاعلاً في خريطة الشرق الأوسط بل وفي العالم كله، يومذاك لن نكون في حاجة إلى «زرقاء اليمامة» لأن الصورة ستصبح واضحة والطريق متسعاً نحو المستقبل الأفضل.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 6 أبريل 2015
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/835911/شباب/زرقاء-اليمامة-والمستقبل-العربي