يصحو أبناء هذه المنطقة من العالم كل صباح على أخبار عن تفجيرات إرهابية وعشرات القتلى ومئات الجرحى، وقد يزيد الأمر إلى أخبار أخرى عن عمليات ذبح وحرق وإغراق ورجم، ولا أتصور أن يكون ذلك كله تعبيراً عن مجموعة من المصادفات، فالواضح أن هناك عقلاً مركزياً يقف وراء كل هذه الأحداث الدامية ويخطط لمستقبل مختلف للمنطقة، ولا أستطيع أن أعطي شهادة براءة للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة الذين يقفون موقف المشاهد الذي يتظاهر بالتعاطف والابتعاد من المسؤولية عن تلك الأحداث غير المسبوقة.
ويتساءل المرء أحياناً عن تنظيم «داعش» من حيث نشأته وتمويله وتدريبه وتسليحه، وهو تنظيم عنقودي يعتبر امتداداً لتنظيم «القاعدة» مع مجموعات من بقايا الجيش العراقي السابق وبعض التكوينات المتطرفة في المعارضة السورية فضلاً عن مئات الشباب المأزومين من الجاليات الإسلامية في الدول الأوروبية وغيرهم ممن يحملون جنسيات دولهم لكنهم مهاجرون فكرياً يحلقون في سماوات الأحلام والأوهام ويجرعون كؤوس التطرف ويشربون من بحيرة الإرهاب الآسنة، كما أن فهمهم للإسلام فهم سطحي للغاية، وهم يرددون عبارات وأفكاراً تبدو دخيلة على روح العصر ولا صلة لها بالحياة الحديثة ولا القديمة أيضاً. إنها جماعات منا خرجت علينا وأساءت إلينا ونشرت الدمار وروعت الآمنين في محاولة لإعادة المنطقة إلى العصور الوسطى، ولنا هنا عدد من الملاحظات:
أولاً: لا بد من أن نناقش في شجاعة وصراحة بعض القرارات العربية الكبرى في السنوات الأخيرة وتأثيرها في الأوضاع القائمة حالياً، إذ إنه عندما جرت المواجهة بين إسرائيل و «حزب الله» في لبنان في العام 2006 تلفظ بشار الأسد بعبارات نابية وصف بها الحكام العرب المختلفين مع موقفه الذي أدى إلى جر المنطقة إلى حرب غير متوقعة. وعلى رغم أنه حاول الاعتذار والتراجع، إلا أنه لم يتمكن من استعادة الثقة فيه مرة أخرى. لذلك عندما قامت الثورة السورية في ربيع عام 2011 دعمتها دول الخليج وأيدتها قوى أخرى عربية في مواجهة المد الإيراني المتغلغل في سورية والذي كان يهدد سلامة الجسد العربي كله.
ونحن نتساءل الآن هل كان قرار دعم الثورة السورية مناسباً في وقته أم أن الأمر كان يقتضي تنظيم صفوف المعارضة السورية ودعمها بدل تسلل العناصر الإرهابية إليها؟ فلو كان الخيار لدينا بين نظام الأسد أو حكم «داعش» لتعاملنا مع نظام الحكم في سورية بطريقة مختلفة تحقق الهدف المنشود من احتوائه واستعادة سورية عربياً بعيداً من المؤثرات الفارسية والتدخلات الإيرانية. وهذه نقطة تحتاج إلى دراسة وبحث في الأوضاع القائمة في ذلك الوقت، لا بمنظار الوقت الراهن، فقد تغيرت الظروف واتضحت الحقائق وتسلل الإرهاب في شكل سرطاني إلى سورية والعراق وغيرهما من الدول العربية.
ثانياً: لست أشك في أن القرار الأميركي الذي اتخذه بول بريمر حاكم العراق بعد غزوه في العام 2003 بحل الجيش العراقي والمؤسسات الأمنية للدولة هناك كان قراراً استراتيجياً خطيراً، ربما كانت إسرائيل تقف وراءه بدعوى الخلاص من بقايا نظام صدام حسين، بينما الهدف الحقيقي هو إخراج القوة العسكرية العراقية من حسابات ميزان القوى في المنطقة فضلاً عن تهاوي العراق وسقوط الدولة في قبضة الخلاف الطائفي والصراع السني - الشيعي نتيجة التدخلات الأجنبية، وفي مقدمها تدخلات الولايات المتحدة وإيران.
لقد خرجت شراذم من الجيش العراقي الذي جرى تسريحه لتنضم إلى الجماعات الإرهابية المتوحشة وهي تحمل خبرة القتال في جيش لم يكن بسيطاً. وهنا لا بد من أن نشير إلى أن الجيش العراقي كان ينتمي في مجمله إلى شعب الرافدين ولم يكن جيش صدام حسين فقط، إذ كانت القيادات موالية له عن اقتناع أو خوف، لكن الجيش العراقي في مجمله كان يجب أن يبقي سنداً للدولة المركزية في بغداد بدل تسريح عشرات الآلاف من الضباط المدربين بلا مصدر دخل، بحيث لم تكن أمامهم إلا الاستجابة لإغراءات منظمات مجهولة الهوية في البداية لكنها ترفع شعارات دينية تغري من تعرضوا لصدمة الغزو وعانوا بطش صدام بالانضمام إليها. لذلك فإن عناصر كثيرة من الجيش العراقي السابق انضمت إلى صفوف المنظمات العاملة على مسرح المواجهة في العراق وأسهمت في شكل واضح في دعم المنظمات الطائفية والإرهابية، ولعل ذلك يعد سبباً آخر لشلال الدم والدموع الذي يتدفق حالياً على الأرض العربية.
ثالثاً: لا شك في أنه كانت هناك إرهاصات لما يجري حالياً ظهرت في شكل تصريحات توقفنا أمامها كثيراً في وقتها، ولعل أهمها عبارة «الفوضى الخلاقة» التي بشرت بها وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس وكأنما كانت تقرأ في كتاب مفتوح، إذ اندلعت ثورات «الربيع العربي» بعد ذلك بسنوات قليلة لتمتص غضب الملايين من أساليب الاستبداد القمعي والقهر السياسي.
استثمرت قوى كثيرة داخلية وخارجية معاناة شعوب المنطقة وتطلعها إلى مناخ جديد يسمح للحريات بالانتشار والازدهار ويحقق الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية المفقودة ويسعى إلى ضرب الفساد الذي كان ينخر كالسوس في جسد أنظمة متداعية. ركب الغرب موجة «الربيع العربي» واستعان بجماعات إسلامية متطرفة ليست بعيدة من تاريخها الإرهابي كي تكون بديلاً للأنظمة التي سقطت. وفي هذا المناخ الجديد تصاعدت حدة الإرهاب في المنطقة، وظهر التعاون واضحاً بين أطراف تتفق في هدف السيطرة على نظم الحكم في المنطقة بعد تقسيم دولها وتمزيق شعوبها وترويع الملايين فيها.
رابعاً: لقد كان يوم الثلاثين من حزيران (يونيو) 2013 يوماً فاصلاً في التاريخ المصري الحديث لأن الملايين التي تدفقت على ميدان التحرير وحوله تمكنت للمرة الثانية خلال عامين من إسقاط نظام كان طيّعاً أمام الغرب بقيادة الولايات المتحدة محاولاً التودد لإسرائيل على حساب الوطنية المصرية وسلامة أراضيها مع الاستسلام الكامل لعملية مدروسة تستهدف تغيير الهوية والعبث بالمسار الطويل للشخصية الوسطية المصرية.
لذلك جاء إقصاء «الإخوان المسلمين» من الحكم في القاهرة بمثابة ضربة قاصمة لمشروع دولي وإقليمي تقوده تركيا رجب طيب أردوغان وتدعمه الولايات المتحدة وتموّله دول أخرى في المنطقة. كان انهيار المشروع برمته سبباً لغضبة شديدة من أطراف التآمر على الشعب المصري، بل والشعب العربي كله، من أجل إحكام السيطرة عليه وإعادته إلى عصور التخلف والظلام. وتواكب سقوط ذلك المشروع الذي كان يتغطى بعباءة الإسلام وعمامة الخلافة، مع المد الإرهابي لتنظيمات متوحشة في المنطقة تقوم بذبح الأبرياء وقتل النساء والأطفال واستدعاء ممارسات غريبة لا سند لها في دين يعلم الجميع درجة تسامحه واحترامه للآخر ورفضه للتعصب والغلو وحرصه على الأرواح والأعراض والممتلكات.
خامساً: إن القوى الثلاث غير العربية التي تحيط بدول الجوار العربي تتحمل مسؤولية أساسية عما وصلت إليه المنطقة في العامين الأخيرين، فإيران تمارس دوراً فارسياً لاختراق العراق بالكامل وتقسيمه فعلياً كما هو حادث الآن، وهي في الوقت نفسه تقف داعمة لـ «حزب الله» ونظام الحكم في دمشق، فضلاً عن دورها في اليمن وإيقاظها لفتنة الحوثيين من أجل إضعاف الكيان العربي لتصبح هي وحدها «شرطي الخليج» بمباركة أميركية ورضاء غربي، خصوصاً إذا تواكب ذلك مع احتمالات توقيع الاتفاق النووي بين الدول الست من ناحية وطهران من ناحية أخرى.
أما تركيا، فأعطى وصول أردوغان إلى السلطة فيها النزعة العثمانية وأوهام الخلافة دفعة قوية، إذ إن تركيا التي تسعى إلى أن تصبح عضواً في الاتحاد الأوروبي تريد أن تأخذ من دورها الجديد في المنطقة العربية مبرراً لتقديم أوراق اعتماد قوية أمام الغرب. وهنا يجب ألا ننسي أن تركيا دولة عضو في الحلف الأطلسي وأنها تحتفظ بعلاقات طيبة مع إسرائيل على رغم المشاكل الطارئة التي تطفو على السطح أحياناً. ولست أشك في أن الدولة التركية قد قدمت تسهيلات لوجستية لحركة «داعش» الإرهابية تحت مظلة المقاومة السورية ضد نظام الأسد، وذلك حق يراد به باطل. أما دور إسرائيل فلا يخفى على أحد، فهي صاحبة العقل المدبر الذي يقف وراء كثير مما يجري وقادتها يفركون أياديهم في سعادة لأنهم يحصدون إيجابياً كل النتائج السلبية للأخطاء العربية.
تلك قراءة عاجلة للمشهد العربي العام في غرب آسيا وشمال أفريقيا، وكلها تدل على أننا سنعاني أكثر في المستقبل القريب على نحو سيستنزف منا دماً ونذرف له دمعاً، لكن مهرجان الفجر سيطل علينا في الأفق لأن الأمم لا تموت والشعوب لا تختفي.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 13 يوليو 2015
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/820495/شباب/الشرق-الأوسط-دماء-ودموع