شهدت منطقة الشرق الأوسط في الفترة الأخيرة تغييرات سريعة وتطورات متلاحقة تؤثر في شكل واضح على الخريطة السياسية وتعكس إلى حد كبير حالة الارتباك التي تعيشها المنطقة نتيجة اتفاقات جديدة وتحالفات لم تكن قائمة، بل إن ثورات ما سمي «الربيع العربي» ساهمت في شكل مباشر في التحولات التي طرأت على هذه الخريطة وأفرزت واقعاً جديداً لم يكن قائماً من قبل، ولعلنا نرصد في هذا السياق الملاحظات التالية:
أولاً: نجحت الديبلوماسية الإيرانية في أن تحدث اختراقاً تاريخياً للحصار الغربي المفروض عليها على امتداد أكثر من ثلاثة عقود وأن تضع نفسها على الخريطة الدولية والإقليمية في المكان الذي كانت تسعى إليه، وذلك من دون وضع قيود «تعاقدية» عليها تحدد مسار سياستها الخارجية وتلزمها بتحول معين تجاه إسرائيل ودور محدد في مكافحة الإرهاب، ولقد كنت أردد في محاضراتي على امتداد العقدين الأخيرين أن العلاقات بين طهران وواشنطن مرشحة لأن تكون الأفضل بين دولة شرق أوسطية وبين القوة الأعظم في عالمنا المعاصر باستثناء العلاقات الخاصة بين أميركا» وإسرائيل بالطبع، وكان كثيرون يعارضونني ويقولون إن حدة العداء بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والولايات المتحدة الأميركية تمثل عداءً أيديولوجياً من نوع خاص لأن إمكانية التقارب بينهما تبدو صعبة وقد تكون مستحيلة وأنها ذات حساسية خاصة وتعقيدات مركبة منذ احتجاز الرهائن الأميركيين في طهران لمدة 444 يوماً بعد قيام الثورة الإسلامية، ولكنني كنت أرد دائماً بأنه لا توجد في السياسة عداوات دائمة أو خصومات مستمرة ولكن توجد فقط مصالح قائمة وأهداف مستقبلية تضعها كل دولة في أولوية أجندتها السياسية.
ثانياً: إن الاوراق الموجودة في الجعبة الإيرانية مطلوبة لدى واشنطن وفي مقدمها قدرة إيران على ضبط إيقاع منطقة الخليج واستعادة دورها باعتبارها «شرطي الخليج» كما كانت أيام الشاه، ولا مانع من أن يحل الملالي مكانه شريطة الالتزام بسياسات ذات خطوط عريضة في المنطقة، ولا بأس من أن تواصل طهران الهجوم الإعلامي على الولايات المتحدة وإسرائيل وتلك أمور مفهومة لدى الطرفين، أما طهران فإنها تنظر إلى الأوراق الأميركية وفي مقدمها رفع الحصار عن ايران وعودة دورها الطبيعي في المجتمع الدولي وإطلاق يدها في المنطقة من دون قيود غربية حادة أو موانع أميركية متوقعة، فضلاً عن استعادة طهران الأرصدة المجمدة منذ سقوط الشاه وهي أصبحت مبالغ ضخمة بحكم تراكم السنين مع رغبة طهران في التواجد في منظمة التجارة العالمية.
ثالثاً: رغم أنني لا أتحمس كثيراً للتحليل القائل بأن الولايات المتحدة باعت حلفاءها في المنطقة وفي مقدمها دول الخليج، نعم إنني لا أتحمس كثيراً للقفز إلى هذه النتيجة، إلا أن إحساساً عاماً بهذا المعنى بدأ يسود المنطقة، وثار جدل واسع حول الخطوة الغربية للتصالح مع إيران بتوقيع اتفاق الملف النووي معها، وعلى رغم أن البعض يرى في ما جرى ضربة للعرب تحولهم إلى أيتام على مائدة اللئام متصورين أن واشنطن أعتهم كالمعتاد، إذ إن الذي يتغطى بالأميركيين هو في واقع الأمر «عريان»، رغم ذلك الشعور العام فإنني أظن أن الرواية لم تتم فصولها، وأن ما هو قادم قد يحمل تحولات أخرى وتوقعات محسوبة.
رابعاً: لقد خرج الإيرانيون يهللون لذلك الاتفاق في الوقت الذي رحبت به الدوائر الغربية أيضاً وكأنه مكسب للطرفين في وقت واحد، فلا بد أن يكون هناك خاسر في مقابل ما حدث، وقد أميل إلى تحليل الأستاذ جهاد الخازن في صحيفة «الحياة» حيث أكد هذا المعنى مطالباً مصر والسعودية والإمارات بحيازة برنامج نووي يؤدي إلى نوع من التعادل في ميزان القوى الشرق أوسطية خصوصاً في ظل وجود دولة نووية مثل إسرائيل ودولة شبه نووية هي إيران.
خامساً: إن الضغوط الخارجية والتدخلات الأجنبية أصبحت تمارس دورها في المنطقة العربية من دون مخاوف أو انتقادات، فلقد أضحت الحرب على الإرهاب مبرراً لإجهاض الكفاح الوطني المسلح ضد الاحتلال الاستيطاني خصوصاً في فلسطين، كما أن الأمر اختلط أيضاً مع غيره في إطار الأزمة السورية وجرى وصم المعارضة هناك بـ «الإرهاب» هي الأخرى بسبب تسلل التنظيمات الإرهابية إلى صفوفها، لذلك فقد اختلط الحابل بالنابل كما يقولون وأصبحنا أمام مشهد مرتبك وغير واضح المعالم حتى الآن.
سادساً: إن أحوال دول الشرق الأوسط في مجملها ليست طبيعية، فهناك حالات الانقسام الداخلي والتدخل الخارجي وتسلل الجماعات الإرهابية تحت مظلة دينية أو سياسية، حتى أصبحت بعض الدول العربية مهددة لأول مرة في وحدتها الإقليمية وسلامة أراضيها. إن الوضع في العراق صعب ومعقد وتختلط فيه المواجهات الطائفية بالصراعات السياسية بل والصدام العشائري وأحياناً العرقي أيضاً في ظل غيبة جيش متماسك بعدما أطاح الحاكم الأميركي بول بريمر بواحد من أفضل الجيوش العربية حتى خرج العراق من ميزان القوى الاستراتيجي في المنطقة، فإذا انتقلنا إلى الجبهة السورية فالأحوال كارثية وقد تحول شعب عربي عريق تميز دائماً بالإباء إلى ملايين اللاجئين والنازحين داخل حدوده وفي دول الجوار المختلفة، فأصبحت الدولة السورية التي كانت تؤوي اللاجئين في وضع لا يسمح لها برعاية اللاجئين من مواطنيها! فضلاً عن حالة البؤس التي يعيشها أبناء الشام في لحظة تاريخية مؤلمة قد تؤدي إلى تفكك الكيان السوري ذاته تحت وطأة التنوع الطائفي والعرقي والقومي.
سابعاً: سوف تظل إيران، خصوصاً بعد الاتفاق النووي مع الغرب، هي الرقم الصعب في المنطقة، وقد يتساءل المرء لماذا سعت الولايات المتحدة ومن ورائها إسرائيل إلى تفتيت المنطقة العربية وتقسيم دولها بينما لم تقم بالأمر نفسه داخل ايران، رغم أن المعروف أن إيران تضم طوائف وأقليات واختلافات عرقية فهي ليست دولة عصية على التقسيم ومع ذلك انصرف الغرب عنها من هذه الناحية وجرى التركيز على العالم العربي أولاً، وقد يكون لذلك مغزى في العقل الغربي الذي يحاول استهداف العالمين العربي والإسلامي على التوالي، وإذا كانت علاقة طهران وواشنطن تمر حالياً بمرحلة هدوء نسبي قد يعقبه نوع من التحالف الاستراتيجي فإن الدول الأوروبية تحديداً تحاول الاقتراب من إيران في لهفة حتى رأينا وزراء خارجية ألمانيا وبريطانيا وفرنسا يعلنون عن التفكير في زيارات مبكرة لإيران فور رفع الحظر النهائي عنها.
ثامناً: إن المشكلات جديدة في المنطقة مثلما هو الأمر بالنسبة الى الحوثيين في اليمن والوضع المتدهور في ليبيا هي مظاهر جديدة توحي بأن هناك من يسكب الزيت على النار، بل لقد تردد أن إسرائيل غير بعيدة من دعم الإرهاب في سيناء الذي يخوض الجيش المصري حرباً ضارية ضده، وذلك يعني ببساطة أن هناك محاولات مكثفة لتعويق العالم العربي وضربه من كل اتجاه، ونحن نظن أن هناك تصوراً بعيد المدى لمستقبل المنطقة وأن ما يجري هي وسائل لتحقيق الغايات المطلوبة في ظل السيناريو الذي جرى إعداده جيداً منذ الحديث عن سنوات «الفوضى الخلاقة» فنحن إذاً أمام وضع ملتبس وظروف معقدة تحتاج منا إلى اليقظة الكاملة والتعامل بحكمة وذكاء أمام المتغيرات المتلاحقة في المنطقة كلها.
تاسعاً: إن كمون «حزب الله» وانحسار دوره نسبياً واقتصاره على دوره السياسي في الساحة اللبنانية هو مؤشر لسياسة إيرانية جديدة في المرحلة المقبلة، رغم أننا فوجئنا بأن الاتفاق الجديد بين إيران والغرب جاء خالياً من أية التزامات إيرانية بعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى والتوقف عن تصدير الثورة والمشاركة الفعالة في مواجهة الإرهاب، لذلك فإننا لا نتوقع من إيران تحولاً جذرياً في سياستها الإقليمية رغم التهدئة الظاهرية التي قد تستمر لبضعة أشهر وربما لعدة أسابيع فقط.
عاشراً: إن مصر هي الحاضر الغائب في المشهد كله فهي تواجه حرباً حقيقية في سيناء إلى جانب استنزافٍ يومي بعمليات إرهابية في أنحاء البلاد، فمصر الدولة تسعى نحو الاستقرار والتنمية والديموقراطية، ولكن المعوقات كثيرة والعقبات متعددة وليس أمام مصر إلا أن تتحلى بالنفس الطويل والصبر في مواجهة التطورات السلبية في المنطقة والاتجاهات المعادية للعروبة بل وللإسلام أيضاً، وسوف تظل مصر هي رمانة الميزان رغم ظروفها الاقتصادية الصعبة والاستهداف الخارجي الذي يتعمد النيل من كيانها بل والمساس بهويتها.
هذه رؤية عاجلة لتداعيات الحدث الضخم الذي جرى مؤخراً بتوقيع الاتفاق بين إيران والغرب والذي يبدو للبعض وكأنه زلزال شديد يهز المنطقة الرخوة بطبيعتها والمضطربة بأحداثها، والمهددة في مستقبلها.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 27 يوليو 2015
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/821821/شباب/مغزى-الاتفاق-بين-إيران-والغرب