يشعر المتابع للشؤون العربية أحياناً أن هناك حالة انفصال بين المراحل المختلفة في الذاكرة القومية لذلك يكرر العرب أخطاءهم بل وأحياناً بالسيناريو نفسه وكأن الذاكرة غائبة والرؤية ضائعة والمشهد جديد! فما أكثر الفرص التي أضعناها والعروض التي رفضناها ثم عشنا العمر نتباكى عليها ونلهث وراءها. إن الذاكرة القومية هي أغلى ما تملكه أمة لأنها تحدد الاتجاه الصحيح وتمثل البوصلة السليمة للتحرك في اتجاه معين. ولأن الأمر شائك والموضوع متشابك فإنني أطرحه من خلال المحاور التالية:
أولاً: إن ذاكرة الأمة هي محصلة تجاربها وخزينة خبراتها تنطلق منها نحو تجديد الحياة والاستفادة من دروس الماضي، والأمة العظيمة تملك «ذاكرة الفيل» والأمة المسطحة تملك «ذاكرة السمكة»، وتقاس عظمة الأمم وقيمة الشعوب بتراثها المتراكم وفكرها الذي لا ينضب ولا يجف نتيجة دورات الشعوب وتتابع الأجيال. ولعلنا نتساءل الآن أين نحن العرب من الذاكرة القومية؟ إن نشاط الذاكرة لدى الأمة هو تأكيد لحيويتها وبرهان على سلامة بنائها، وليست الذاكرة القومية هي أشعار الماضي المتحمسة وأهازيجه المتكررة ولكنها تراث إنساني يخص شعباً بذاته وأمة بعينها ويعطيها دفعة إلى الأمام لا تتراجع بعدها.
ثانياً: إن أمة لا تتذوق تاريخها ولا تؤمن بالمصالحة بين فتراته المختلفة هي أمة عاجزة بالطبيعة لأنها تبقى أسيرة الماضي السلبي ولا تدرك قيمة العطاء الإيجابي الذي يمهد لفترات صحوتها ونهضتها، فالتاريخ كتاب واحد يسلّم فيه كل فصل إلى الفصل الذي يليه صفحات من العمل العام بكل ما تنطوي عليه الكلمة من مخزون حضاري ورصيد إنساني، ولو أخذنا الحالة المصرية نموذجاً لوجدنا مفكريها وكتابها ينصرفون إلى نبش الماضي بمنطق الاختلاف بل والصراع وليس بمنطق تراكم الخبرة ويقظة العقل، فالمصري العادي يمكن أن يقوم بحملة ضد فترة الحكم الملكي في مصر لمصلحة عصرَي عبد الناصر والسادات مثلاً أي لفترة ما بعد تموز (يوليو) 1952، بل وقد يزيد الأمر عن ذلك بحملة للناصريين ضد حكم السادات أو حملة من مؤيدي السادات ضد عصر عبد الناصر حتى نصل في النهاية إلى تراشق واضح في الكتب والدراسات والمقالات، بينما الأولى بنا جميعاً هو أن نبحث في ذاكرة الأمة بمعناها العام من دون تفرقة أو تمييز بين عهد وآخر، فالحكام يأتون ويرحلون وتبقى الشعوب تحمل ذاكرتها الجمعية وتفكر بوعيها الذي اكتسبته عبر الأزمنة ومن لم يتعلم من ماضيه لن يعيش حاضره ولن يتهيأ لمستقبله، ورغم أننا نحن العرب نتعرض لهجمات شرسة ونظل دائماً في قلب دائرة الاستهداف ولكننا قد لا نعي الدرس حيث تظل المؤثرات الخارجية عامل ضغط علينا لا يسمح لنا بتأكيد هويتنا القومية بل ويؤدي إلى تهميش تجاربنا التاريخية ويمنع الإفادة منها والبناء عليها، لكن المصالحة الشاملة مع الماضي تعفينا من حالة اضطراب الذاكرة وتضع كل القوى العربية، سياسية واقتصادية وثقافية، في الصدارة بدلاً من تشويه الصور وتمزيق الأوراق وتحطيم نماذج مبهرة وتشويه مُثلٍ عظيمة. إن الكتابة عن الذاكرة القومية ليست موضوعاً نظرياً ولكنها تقع في صميم اهتماماتنا إذ إن قدرتنا على استقراء الماضي هي في الوقت ذاته المدخل الطبيعي لتشكيل رؤية للمستقبل وتعبيد الطريق الذي نمضي فيه.
ثالثاً: لقد جاء في أدبيات الحضارة العربية الإسلامية أن (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) ولكن واقع الأمر يوحي بغير ذلك، فما أكثر ما تعرضنا للدغ من الجحر الواحد مرات عدة، والذين ضربوا الطائرات المصرية وهي رابضة على مدارج المطارات عام 1967 هم أنفسهم الذين ضربوها بالطريقة نفسها تقريباً عام 1956، بل أكثر من ذلك أن العرب الذين أضاعوا الأندلس منذ قرون عدة هم أنفسهم الذين كادوا أن يضيعوا الوجود العربي في فلسطين، فالسيناريوات واحدة والأساليب متقاربة وبدلاً من ملوك الطوائف في الأندلس عرفنا صراعات الحكام في العالم العربي، وفي ظني أن أمة لا تتعلم من أخطائها ولا تدرك حجم ماضيها وقيمة تجاربها هي أمة لا تستحق المجد ولا تصل إلى مدارك العلا ومراتب النهوض، ولقد عانينا في عالمنا العربي كثيراً من تكرار الأخطاء وتعاقب النكبات والنكسات والأزمات وظللنا دائماً نلوك الماضي من دون وعي ونبكي على اللبن المسكوب بلا فائدة، فخطأ مرة يجوز ولكن تكراره هو الذي لا يجوز، إذ لا يمكن أن نظل نحن العرب حقل تجارب دائماً ونبقى دائماً كـ «الأيتام على مائدة اللئام» نملك الثروات الطبيعية والبشرية ونخرج منها أحياناً «بخفي حنين». لقد آن الأوان لأن نصحو من غفوتنا وأن نستجيب لنداء العصر وأن ندرك أخطاره الكبرى حيث يطوقنا الآن حزام إرهابي من كل اتجاه في محاولة لتقويض كيان الدولة في الوطن العربي والعودة بنا إلى تجمعات طائفية تمزق وحدتنا وتحيلنا إلى دويلات هزيلة تستمتع فيها إسرائيل وحدها كلاعب رئيس في المنطقة ولا مانع من أن تصفق لها تركيا وربما إيران أيضاً.
رابعاً: إن المقدمات الصحيحة تؤدي إلى نتائج سليمة ولكن البدايات الخاطئة تسلمنا إلى عواقب وخيمة لذلك فإن الارتباط الشرطي بين المقدمات والنتائج أو بين الأسباب وردود فعلها هو من الأمور التي لا يمكن إغفالها أو الإقلال من آثارها، لذلك فإن الربط المنطقي بين ما نفعله وما نتوقعه يجب أن يكون مستقراً في الأذهان واضحاً أمام أصحاب الرؤى وذوي الخبرات، إذ لا بد من تقوية كل دولة عربية من الداخل والاتجاه إلى التنسيق السياسي، عسكرياً وديبلوماسياً، بحيث تحقق الأمة العربية درجة عالية من التشبع بروح العصر ومواكبة أحداثه والابتعاد عن الشعارات الجوفاء والكلمات الرنانة والعبارات الطنانة بينما نصحو نحن فيما أمسينا عليه لا نعي التجربة ولا نبحث في الذاكرة ولا ندرك الثمن الذي ندفعه بين حين وآخر، وإذا كان الرئيس الأميركي باراك أوباما في خطاب حالة الاتحاد هذا العام قد قلل من خطورة تنظيم «داعش» وترك انطباعاً لدى الأميركيين بأن ذلك التنظيم لا يستهدف الولايات المتحدة فإنه في ظني قد وقع في خطأ كبير ليس له ما يبرره بل إنه قفز فوق الواقع ونسي أن بلاده هي التي صنعت تنظيم «القاعدة» ثم اكتوت بناره بعد ذلك حيث بلغت الذروة باقتحام برجي التجارة في 11 أيلول (سبتمبر) 2001، ولذلك فإننا نقول للرئيس الأميركي الذي سيبرح موقعه بعد عام وبعض عام: إنك تخلي مسؤولية الولايات المتحدة في مجال مكافحة الإرهاب والتصدي له وتقنع بدور المتفرج رغم أن يد الإرهاب قد تكون طويلة ولا تفرق بين دولة وأخرى، لذلك فإن التفكير العملي والتسلسل المنطقي للأحداث يجعلنا، وفي المقدمة الولايات المتحدة القوة الأعظم في عالمنا المعاصر، نفكر بطريقة مختلفة ونتصرف وفقاً لـ «السيناريو الأسوأ» بدلاً من الطمأنة الظاهرية والرؤى السطحية للقضايا الخطيرة من نوع الإرهاب وتداعياته.
خامساً: لقد عكفنا نحن العرب منذ قرون طويلة على التغني بالأمجاد أحياناً والبكاء على الأطلال أحياناً أخرى، وانصرفنا إلى دواوين الحماسة نستلهم منها عبارات ضخمة وكلمات كبيرة مبتعدين عن الواقع منصرفين عنه مع تعلق بالروح الماضوية والذكريات القديمة في إطار عملية انتقاء تحكمي لما نرى فيه ما يريحنا وما يتمشى مع النعرات لدينا، فكانت النتيجة دائماً هي أننا نلوك ما نسميه انتصارات ونتباكى أحياناً على النكسات ولكننا لا نفكر أبداً في المستقبل ولا ندرك أهميته ولا نعي ضرورة التفكير فيه والمضي نحوه، لذلك تكون النتائج أحياناً كارثية بكل معنى الكلمة لأننا أسرى الماضي بالمعنى السلبي وليس الإيجابي فلا نستخدم الذاكرة القومية من أجل الإصلاح قدر استخدامنا لها من أجل التبرير وكأنما كتب علينا دائماً ألا نتعلم من ماضينا وألا نتجنب أخطاءنا وألا ندرس بعناية ما يدور حولنا.
إن علاقة العرب بـ «الذاكرة القومية» يجب أن تمضي في طريق إيجابي يبعدها عمّا مضت فيه ويأخذ بيدها نحو الحكم الرشيد والشعب الواعي والأمة المتماسكة فقد ضاع الكثير وأصبحنا أمام تحدي البقاء وضرورة الانطلاق نحو النهضة، ولا بد من توظيف كل الأدوات المتاحة من أجل الخروج من عنق الزجاجة والمضي بعيداً من المأزق الذي وصلنا إليه والطريق المسدود الذي نكاد أن ندخل فيه، ولست أدعو بذلك إلى الإحباط ولا أروج إلى اليأس ولكنني أدعو مخلصاً إلى تأمل حالنا ودراسة أوضاعنا مع مواجهة واعية لخطط خصومنا.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 25 يناير 2016
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/837066/شباب/العرب-والذاكرة-القومية