أحسب أن مشكلة العرب ليست سياسية فقط ولا اقتصادية بالمعنى المباشر للكلمة ولكنها مشكلة ثقافية بالدرجة الأولى، لأن العربي ورث جينات تجعله يقول أكثر مما يفعل، ويتحدث أكثر مما يعمل، ويرتد إليه تاريخه العريق بين حين وآخر ليصيبه بنوع من جنون العظمة الموقت ليكتشف أحياناً أنه خارج دائرة العصر ولا يعتبر امتداداً طبيعياً لتاريخ الحضارة العربية بكل ما احتوت عليه من أحقاب زاهرة وعصور متألقة، وتبدو أهمية ما نقول إذا أدركنا تزايد أهمية العامل الثقافي في حياتنا المعاصرة بحكم التطورات الدولية والإقليمية، ولذلك فإنني أجدد دعوتي التي طرحتها منذ أكثر من عشر سنوات مطالباً بعقد قمة عربية ثقافية وهو أمر تبنته بعد ذلك ودعت إليه القمة العربية في الجزائر منذ عدة سنوات، ولكن الأمر ظل ينتقل بين أمناء جامعة الدول العربية، إذ بينما كان عمرو موسى متحمساً كان نبيل العربي متحفظاً، ونحن في انتظار أحمد أبو الغيط لعله يحرك الأمر ويدفع به إلى قمة الرؤساء، فإذا كنا قد عقدنا قمماً اقتصادية فمن الأوْلى السعي لعقد قمة ثقافية تقدمت باقتراح لها في اجتماع لـ «مؤسسة الفكر العربي» في بيروت منذ عقد كامل وكان رئيس الاجتماع هو رئيس المؤسسة الأمير خالد الفيصل وبحضور السيد تمام سلام وزير الثقافة حينذاك ورئيس وزراء لبنان حالياً وترك الاقتراح أثراً إيجابياً سريعاً، فتبنته «مؤسسة الفكر العربي» التي كنت أحد أعضاء هيئتها الاستشارية كما تحمس له اتحاد الكتاب العرب برئاسة الأستاذ محمد سلماوي في وقتها، وها أنا أجدد الطرح مُلِحاً لأن الثقافة هي نسق حضاري وسلوك إنساني بل هي أسلوب حياة يلتزم به الإنسان المعاصر في إطار الأسرة الدولية التي يعيش فيها ويتفاعل معها، ولعلي أطرح اليوم الأفكار التالية:
أولاً: لو نظرنا حولنا لوجدنا أن القضايا الثلاث التي طرحها الفكر الغربي المعاصر وصدّرها الى شعوب العالم هي ذات طبيعة ثقافية، فـ «العولمة» هي تعبير عن سقوط الحواجز وتلاشي الحدود لانسياب الأفكار والسلع والخدمات أو بمعنى آخر هي حالة التوحد بين مؤسسات المجتمع المدني في الدول المختلفة على مستوى العالم، وقد فتحت «العولمة» بالفعل الطريق لسيولة التدفق الفكري والثقافي والسلعي والخدمي من دون انسياب حركة الأفراد بين الدول والتي أصبحت أكثر تعقيداً لأسباب تتصل بالمسائل الأمنية وانتشار الجرائم الإرهابية، أما الظاهرة الثانية التي صدّرها الغرب إلينا فهي نظرية «صراع الحضارات» التي ابتدعها صمويل هنتنغتون والتي استبدلت الخطر الشيوعي الأحمر بالخطر الإسلامي الأخضر وفتحت باباً لصراع ثقافي قد لا ينتهي في المنظور القريب، أما الحرب على الإرهاب فهي أيضاً مواجهة ثقافية بالدرجة الأولى لأن التباين بين صورة بن لادن في أحراش أفغانستان تبدو بعيدة للغاية عن صورة أوباما في البيت الأبيض، لذلك لا توجد بينهما لغة أو عقلية مشتركة ويوماً بعد يوم تزداد الهوة اتساعاً نتيجة الاختلاف الثقافي الكبير بين طرفي الصراع، ولو أننا استطعنا إيجاد أرضية مشتركة بين كل الأطراف لأصبح ذلك هو المقدمة الطبيعية للذوبان الحضاري وإقامة جسور التواصل بين الثقافات والأديان.
ثانياً: لا يشكك أحد في الثراء الطاغي لـ «لغة الضاد» بما تملكه من صور بيانية واستعارات لفظية ومرادفات بغير حدود ولكن الحفاظ على تلك اللغة أصبح هدفاً نسعى إليه ونطلبه، ولأن لغتنا غنية فهي أيضاً فضفاضة وقد انعكس ذلك على شخصية العربي الذي نجد أن أبسط تعريف له هو كل من كانت العربية لغته الأولى، ويبدو أن شخصية كل لغة من اللغات الحية تنعكس على الشعوب الناطقة بها، ولأن العربية هي لغة القرآن الكريم فإن العالمين العربي والإسلامي يشتركان فيها حديثاً أو حتى فهماً لأولئك الذين يقتصر استعمالهم لها على أداء واجباتهم الدينية، لذلك فإن القمة الثقافية العربية ينبغي أن تبحث ضرورة الاهتمام باللغة العربية وتنشيط المجامع اللغوية والدفع بدماء جديدة فيها تسمح بأن تكون لغة عصرية لا تذوب في غيرها ولا تعجز عن الوفاء بمقتضيات الحياة الحديثة ومرادفاتها المختلفة، فاللغة كائن حي يحتاج إلى رعاية واهتمام إذ إنها العامل الرئيس في تشكيل ثقافة الأمم ووجدان الشعوب، ويكفي أن يتأمل العرب في تلك اللغة التي يتحدثون بها وتربطهم من المحيط إلى الخليج والتي تمثل العنصر الأساس في الفكر القومي العربي الذي يجمع الناطقين بها من دون النظر إلى دياناتهم أو أصولهم العرقية أو مراكزهم الاجتماعية.
ثالثاً: دعنا نعترف بأننا أمة تعاني أحياناً من أعراض مرض الانتفاخ القومي بما يجلبه من إحساس مبالغ فيه بالذات ورغبة في استبعاد الآخرين والنظر إلى الغير بدونية أحياناً وبترفع أحياناً أخرى، ولذلك فإن المظاهر السلوكية للعرب ترتبط ارتباطاً وثيقاً بثقافتهم القومية وتراثهم الحضاري، كما أن السلوك السياسي للعرب هو انعكاس للثقافة السائدة والفكر المنتشر، وإذا كانت القومية تستند إلى العامل الثقافي قبل غيره فإن قدرة الساسة والحكام العرب محكومة هي الأخرى بالهوية الوطنية والشخصية العربية بما لها وما عليها، ولو نظرنا إلى كل ما حل بالعرب في العصر الحديث فسنكتشف أن النكبات والنكسات والأزمات لا تبدو بعيدة عن الأمراض السلوكية المسيطرة على التفكير العربي، لذلك فإنني أرى أن المحنة الأساسية التي نعاني منها هي محنة ثقافية بالدرجة الأولى لأنها ذات اتصال مباشر بطبيعة العقلية العربية وتراثها الثقافي وتراكم الخبرات فيها، ولا يخالجني شك في أن نوعية التعليم مع الإطار الإعلامي السائد تشكل العناصر الأساسية لمنطلقات التفكير في الشؤون الداخلية والخارجية معاً، فالثقافة ليست بعيدة عن السياسة لذلك فإن القطيعة بين الحكام والثقافة أو الخصومة بين الساسة والفكر هي قضية مؤسفة في عالمنا العربي انعكست بالضرورة على كثير من القرارات الفردية والمواقف الخاطئة التي أضرت بنا كثيراً.
رابعاً: لا يختلف اثنان على أن التعليم هو بوابة المستقبل، والفارق بين أمة وأخرى يكمن في نظامها التعليمي ولن تتدهور أحوالنا ولن تتخلف أفكارنا إلا مع تراجع النظام التعليمي، ولو أخذنا مصر على سبيل المثل فسنكتشف أن مشكلة المشاكل لديها تكمن في تهاوي النظام التعليمي، فحتى عام 1970 كان الطبيب المصري يعامل في المملكة المتحدة معاملة الطبيب البريطاني ويجرى امتحانه فقط في اللغة الإنكليزية بينما كان الطبيب الهندي مطالباً بدراسة إضافية للحصول على شهادة معادلة. كان ذلك منذ أربعة عقود، فأين هو التعليم المصري الآن مما كان عليه؟! ولا شك في أن ذلك ينعكس على الأداء العام في الدولة وتصرفات المسؤولين أيضاً، فالتعليم هو طريق المستقبل وأنا أدعو القمة الثقافية العربية إذا انعقدت إلى التركيز على قضية التعليم لأهميتها البالغة ودورها الكبير، ولنفكر مثلاً في التركيز على منهج دراسي واحد يكون أساسياً على مستوى المؤسسات العلمية في كل البلاد العربية، ويتفرع عن التعليم أمران أولهما هو البحث العلمي الذي يبدو كارثياً في العالم العربي إذ إن مجموع حجم الإنفاق عليه في كل الدول العربية الاثنتين والعشرين أقل مما تنفقه عليه دولة أوروبية واحدة، أما الأمر الثاني فهو عنصر التشغيل لأن خريجي الجامعات والكليات والمدارس غير مؤهلين للوظائف وفقاً للطلب القائم في ضوء العرض المتاح، وهناك ملايين من العاطلين من العمل في أرجاء العالم العربي بينما هناك أيضاً حاجة إلى العمالة المدربة التي لا وجود لها في الغالب بسبب سوء النظام التعليمي ونقص مراكز التدريب التي تعيد تأهيل الخريجين وفقاً لاحتياجات السوق حتى يلتقي العرض والطلب في إطار الموارد البشرية المتاحة وتختفي البطالة التي هي وقود الإرهاب والمخدرات وبقية الانحرافات.
خامساً: لا شك في أن الأدب والشعر، والسينما والمسرح، وكافة الفنون هي أدوات لمواجهة التطرف والتعصب والإرهاب، وهي بحق صناعة الحياة بينما الإرهاب الأسود الذي يطل علينا بين حين وآخر هو صناعة الموت، فالثقافة هي وعاء القيم وإطار التقاليد والتعبير الحقيقي عن الروح القومية والشخصية الوطنية، لذلك يجب أن نعتصم بها ونحتكم إليها في كل ما نسعى لتحقيقه في عالمنا المعاصر، ولا يختلف الكثيرون من مفكرين وخبراء على أن الثقافة هي الأداة المؤثرة في التقدم وهي جاذبة السياحة وقاطرة التنمية وحافظة التراث.
تلك هي رؤيتنا لأهمية العامل الثقافي في العلاقات الدولية المعاصرة ودوره في تحريك أمتنا العربية إلى الأمام، فالحضارة تكاد تكون مرادفاً للثقافة ولن تستقيم أمورنا ولن تنصلح أحوالنا إلا بالمضي قدماً من أجل مستقبل أفضل للأجيال العربية القادمة حتى تكون جزءاً لا يتجزأ من العالم المتقدم بدلاً من أن تكون عالة عليه ومحتاجة له.
إننا نمضي على الطريق الصحيح إذا طرحنا قضية الثقافة العربية على أعلى المستويات لتصل إلى قادة الرأي وصناع القرار من ملوك ورؤساء وأمراء في مواجهة حاسمة مع همومنا الموروثة ومشكلاتنا المتراكمة وأزماتنا الطارئة.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 3 مايو 2016
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/816750/شباب/العروبة-وثقافة-العصر