وجه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي دعوة علنية إلى المصالحة بين الفصائل الفلسطينية، ثم بين الجانب الفلسطيني وإسرائيل، بحيث نصل إلى حل عادل تعتمد عليه تسوية نهائية تلبي الحد الأدنى من مطالب كل طرف، إذ إن صُنع السلام يحتاج دائماً إلى قرارات صعبة وربما تنازلات مريرة، ولعلها أول مرة يوجه فيها الرئيس المصري مثل هذا الحديث في ظل ظروف مصر بعد ثورة 25 كانون الثاني (يناير) 2011 والتبعات الناجمة عنها والملابسات المرتبطة بها. ويهمني بداية أن أسجل الملاحظات التالية:
أولاً: أن هناك ظاهرة تستحق الاهتمام ولم يلتفت إليها كثير من الباحثين في السياسة الإقليمية وخبراء الشؤون العربية، وأعني بها أن ثورات «الربيع العربي» في كل الدول التي اندلعت فيها لم ترفع في البداية شعاراً واحداً معادياً لإسرائيل أو متعاطفاً مع القضية الفلسطينية، بل سيطرت عليها القضايا الداخلية والأمور المحلية، فالفقر وسوء توزيع الثروة والبطالة وغياب العدالة الاجتماعية وشيوع الفساد وعنف قبضة الاستبداد في نظم الحكم التي سقطت، كانت كلها هي الدافع لخروج الملايين إلى الشوارع والميادين مطالبين بإسقاط النظم الحاكمة واختفاء الحكام الذين انتهت الأعمار الافتراضية لوجودهم في السلطة بعدما ترهلت نظم حكمهم وشاخت مواقفهم، ولذلك لم تحتل القضية الفلسطينية مكانها اللائق باعتبارها قضية العرب الأولى حتى تتصدر المشهد وتكون هي الشعار الأول فيه، فإذا بنا نجد أن الأمر مختلف تماماً فلا هي الشعار الأول ولا الأخير، وتلك ظاهرة تستحق الدراسة عند تحليل الثورات والانتفاضات وأسباب القلق العام في مصر حتى الآن.
وقد يقول قائل إن شباب الثورة المصرية بعد شهور من اندلاعها قام بعضهم بمهاجمة سفارة إسرائيل في القاهرة، بل وانتزعوا علم الدولة العبرية من فوق السفارة، وفي ظني أن ذلك لم يكن تصرفاً جماهيرياً عاماً بدليل أن بعض من يفتقدون الوعي ويعانون من قلة الإدراك هاجموا السفارة السعودية أيضاً، وهي الدولة الشقيقة الأقرب إلى مصر عبر مراحل التاريخ المختلفة. خلاصة القول في هذه النقطة هي أن القضية الفلسطينية لم تحتل مساحة في وعي ثورات «الربيع العربي»، خصوصاً في مصر.
ثانياً: أن ذلك لا يعني أن الشعور القومي لتلك الثورات لم يكن موجوداً، ولكنني أظن أن السبب في تغليب الشأن الداخلي وإعطائه أولوية على السياسة الخارجية إنما يرجع إلى شعور الثوار بأن التغيير يبدأ من الداخل وبأن إعادة ترتيب البيت ستؤدي بالضرورة إلى وضع أفضل تبرز فيه إرادة الشعب وتتأكد قدرته على صياغة سياسته الخارجية وفقاً لتوجهاته الوطنية وانتماءاته القومية. ولعل ذلك يفسر تركيز بعض ثورات «الربيع العربي» على العامل الديني قبل غيره، لذلك لم يحتل الفكر القومي مساحة كبيرة في خلفية الثورات بكل ما لها وما عليها.
ثالثاً: سنلاحظ أن غياب السياسة الخارجية عن أهداف ثورات «الربيع العربي» لم يكن خياراً مصرياً فقط، لكنه فوق ذلك وقبله كان موقفاً عربياً عاماً، إذ لم نجد واحدة من دول «الربيع العربي» تخرج عن السياق أو تغرد خارج السرب، فالكل يتحدث عن الثورة ضد أوضاع فاسدة أو ظالمة في الداخل، لكنه لا يربط ذلك بسياسة خارجية أو تطلعات قومية. وظل الأمر على هذا النحو في السنوات الأخيرة بحيث تعبر الأنظمة الجديدة عن تعاطفها الدائم مع الشعب الفلسطيني الشقيق، لكننا لم نشهد تظاهرات في الشارع العربي تتبنى ذلك أو تعبر عنه.
رابعاً: لقد ظلت إسرائيل ترقب عن كثب ما يجري في المنطقة العربية، وهي تحصد كل يوم حصاداً إيجابياً نتيجة ما تعانيه الدول العربية من عوامل الإخفاق وأسباب القلق والتوتر. ولا شك في أن إسرائيل وقفت خلف كثير من المشاكل التي يجري تصديرها يومياً إلى دول «الربيع العربي»، وهي لا تعلق كثيراً على مجريات الأمور لكنها تكتفي فقط بالرصد الصامت تاركة لغيرها أن يقول ما يشاء، وحكامها يفركون أيديهم في سعادة وهم يشهدون بحار الدماء في سورية وميلاد الإرهاب في العراق وموجات التوتر في مصر. ولعل ذلك كله يشكل في مجمله مشهداً جديداً قد يرى فيه المعادون للعرب تطوراً إيجابياً لمصلحتهم.
خامساً: يرى فريق من خبراء المنطقة أن ثورات «الربيع العربي»، رغم صدق نوايا من قاموا بها، لم تكن خيراً كلها، بل يرى بعضهم أنها جلبت قدراً كبيراً من الفوضى في عدد من دول المنطقة كما أنها أدت إلى أن تتوارى القضية الفلسطينية وتأخذ منحى مختلفاً، وكانت النتيجة الأخطر هي أن قوى الإرهاب الدولي سعت إلى استثمار أحداث «الربيع العربي» كمظلة لدعم أنشطتها وتكريس وجودها. فتنظيم «داعش» -على سبيل المثال- ترعرع في أحضان أحداث «الربيع العربي» وانشغال الجميع بالمشكلات الداخلية والصراعات المحلية، لذلك فإنه لا يخالجنا شك في أن ما جرى على امتداد السنوات الخمس الماضية كان تعبيراً مباشراً عن الحال الضبابية التي غلفت الفضاء العربي كله في ظل الخبطات العنيفة لأحداث ما سمي بـ «الربيع العربي» وما نجم عنها في معظم الأقطار العربية.
سادساً: أن مصر ارتبطت تاريخياً بالصراع العربي- الإسرائيلي، حتى إن كثيرين من المؤرخين المعاصرين يرون أن القضية الفلسطينية هي قضية مصرية أيضاً. ولقد جرى استطلاع للرأي في القاهرة قبل سنوات عدة، وكان السؤال الرئيس فيه عن المشكلة الأولى التي تؤرق المواطن المصري. وكان من المتوقع أن تنصرف إجابات العينات المختلفة في ذلك الاستطلاع نحو المشاكل الداخلية، بدءاً من البطالة مروراً بتدهور التعليم وصولاً إلى نقص الخدمات، لكن المفاجأة الحقيقية كانت هي أن معظم من شاركوا في ذلك الاستطلاع قرروا بنسبة تزيد على 78 في المئة أن مشكلة المواطن المصري الأولى هي القضية الفلسطينية، وحال التأرجح بين العداء السافر والسلام البارد. لذلك كان متوقعاً أن يرفع ثوار ميدان التحرير شعاراً يدعو إلى نصرة الشعب الفلسطيني والتركيز على الخطر الصهيوني رغم كل اتفاقات السلام ومعاهدات الأمن، لكن ذلك لم يحدث وانصرف المصريون في اتجاه عكسي ضد نتيجة ذلك الاستطلاع الذي تحدثنا عنه، فإذا بالملايين تركز على الشأن الداخلي وتبتعد من السياسة الخارجية والقضية الفلسطينية والصراع العربي- الإسرائيلي.
سابعاً: لقد أدرك المصريون أن استهداف مصر في السنوات الأخيرة هو جزء من صراع يسعى إلى تمزيق الأمة العربية وإضعاف دول المركز في مصر وسورية والعراق والسعودية، وتغيير التركيبة التي عرفتها المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. ولذلك ردد الكثيرون أننا أمام سايكس- بيكو جديدة، بحيث يبدو هناك اتجاه لإعادة ترتيب الخريطة السياسية وصياغة المنطقة من جديد. ولم تكن وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس تعبث حين تحدثت عن «الفوضى الخلاقة»، ولم يكن المفكر الاستراتيجي الكبير هنري كيسنغر واهماً عندما تحدث عن «الغموض البناء»، مشيراً إلى تأثير عامل الوقت في حل المشاكل الدولية والصراعات المحلية.
ثامناً: إن ما ذكره الرئيس المصري في إحدى جولاته الداخلية أخيراً عن استعداد مصر لدعم المصالحة الفلسطينية تمهيداً لمفاوضات فلسطينية- إسرائيلية تتحقق بها الأماني القومية لشعوب المنطقة ويأتي معها الاستقرار السياسي وتخفت حدة المواجهة في الصراع العربي- الإسرائيلي، يدخل المنطقة في مرحلة جديدة تتمكن خلالها من القضاء على الموجات الإرهابية ومواجهة خوارج العصر وتتار القرن الحادي والعشرين.
تاسعاً: لقد جاءت دعوة الرئيس المصري بعد مبادرة فرنسية دعت إلى عقد مؤتمر في باريس لأطراف الصراع العربي- الإسرائيلي لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو رفضها، بينما رحب بها بعض الدوائر الإسرائيلية ترحيباً يعوزه التقدير للنداء المصري، وقد استقبل الفلسطينيون الموقف المصري الجديد بالترحيب مع تحفظات «حمساوية» متوقعة.
عاشراً: جاء بعض كتابات المعلقين الأجانب، بل والعرب، على الطرح المصري الذي تقدم به الرئيس السيسي، بالتلميح إلى أنها محاولة ذكية للهروب إلى الأمام وإخراج مصر من عنق الزجاجة وإحداث اختراق يسمح للدور الإقليمي المصري المعروف تاريخياً بأن يعود إلى سابق عهده وأن يتحول إلى عامل قوي يعطي مصر قيمتها الحقيقية ويدعم سياستها الخارجية ويقطع الطريق على أعدائها في كل اتجاه.
إننا نظن -بعد الملاحظات السابقة- أن الموقف المصري الجديد يتناغم مع مواقف أخرى في عواصم عربية، معظمها خليجي، إذ إن الصراع الطويل امتص طاقات شعوب المنطقة وأصابها بما تعاني منه الآن من امتدادات فارسية وأطماع تركية ومخططات إسرائيلية وهجمات إرهابية، لذلك جاء الوقت كي ينال أصحاب الحق ما ناضلوا من أجله وحاربوا في سبيله، إذ إنه تستحيل المزايدة على نضال الشعب الفلسطيني ودماء شهدائه الذين يسقطون كل يوم ولا يمكن أن تكون هناك تسوية سياسية مقبولة إلا بدولة فلسطينية مستقلة عاصمتها في القدس.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 31 مايو 2016
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/818916/شباب/مصر-ومستقبل-الصراع-العربي-الإسرائيلي