لست أول المدافعين عنه ولا آخر الرافضين لما يتعرض له، فالإسلام، شريعةً وفقهاً وممارسةً، يدافع عن نفسه بكل من يكون موضوعي النظرة، محايد التوجه، يرى الأمور بمنظار العدل في الحكم والتجرد عن الهوى عند التقويم. وما أكثر من دافعوا عن الإسلام بعد أن فهموه حتى وإن لم يؤمنوا به، ليس أولهم الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا في محاضرتيه الشهيرتين، أولاهما في جامعة أكسفورد، والثانية في صحن الأزهر الشريف. كما أن الذي يقرأ لكُتَّاب معاصرين في الصحافة العربية والدولية من أمثال جهاد الخازن وسمير عطاالله وغسان شربل يدرك أن مسيحيتهم التي تدعو دائماً إلى المحبة بين البشر والوئام بين أصحاب الديانات، قد دفعتهم إلى كتابات منصفة للإسلام لأنهم فهموه من دون غرض في النفس أو انحياز في النظرة. لذلك، فإنني كمسلم أقول إن ديني مفترى عليه لأن قلة من المنتمين إليه شكلاً لا موضوعاً قد أساءت إليه وإلى الإنسانية جمعاء باسمه. فمن ذا الذي يقول إن الإسلام دين يدعو إلى ترويع الآمنين وذبح الأبرياء وسبي النساء وإرهاب البشر من غير المسلمين بل والمسلمين أيضاً، شاهراً سيف الإسلام الذي يدعيه وعمامته التي يختفي تحتها وعباءته التي يتسربل بها؟ لا بد لهؤلاء العجزة وقصيري النظر بل وفقراء الرؤية أن يدركوا أنهم وجهوا للإسلام في العقود الأخيرة طعنة دامية لم يعرف لها مثيلاً من قبل، فالذي طرأ على جسده سرطانٌ من نوع شرس ينهش فيه ويقتل باسمه حتى أصبحت صورة الإسلام والمسلمين قلقة ومهتزة في عيون الملايين في أنحاء المعمورة وهم يتابعون أخبار المآسي وصور المجازر بل والقتل أحياناً على الهوية. وإذا كان هناك من يرى أن الإسلام دين لدى البعض وقومية لدى البعض الآخر إلا أن ذلك يؤكد دائماً أن هذا الدين الحنيف في جوهره يمثل دعوة للتسامح والاعتراف بالآخر واحترام خيارات الغير. ولعلَّنا نُبَسط معطيات هذا المقال من خلال المحاور التالية:
أولاً: برزت عبر المنعطفات التاريخية في العصور الحديثة أزمات صامتة بين الإسلام كدين والعروبة كقومية، وعندما اكتسح المشروع القومي المنطقة في خمسينات وستينات القرن الماضي توارى المشروع الديني ولكن هزيمة 1967 كانت نقطة تحول فاصلة أدت إلى تراجع المشروع القومي وبروز المشروع الإسلامي بكل ما لحق به من تطرف وعنف بلغ حد الإرهاب، وبدأ البعض في التساؤل: هل هناك علاقة عكسية بين الدين والقومية؟ خصوصاً أن هناك من يتصور على الجانب الآخر أن ثمة علاقة طردية بين الإسلام والعروبة في مساحات مشتركة لعلَّ أهمها هي القضية الفلسطينية بكل تفاصيلها المعروفة. ولكن استقراء التاريخ يؤكد أن الإسلام حمل العروبة معه لأن لغتها هي لغة القرآن الكريم، فقبلت دول الإسلام ديناً والعروبة ثقافة في الوقت ذاته، بينما تحفَّظت دول أخرى واكتفت بالإسلام ديناً واعتصمت بثقافتها الأصلية ورفضت الذوبان في الكيان العروبي. ونحن نظن أن التعارض بين المشروعين الإسلامي والعروبي قابل للتسوية لأن مساحة الاتفاق بينهما أكبر بكثير من مساحة الاختلاف، بل إن هناك دولاً عربية استخدمت الإسلام كقومية وليس مجرد دين تؤمن به، فقد حارب الجزائريون – على سبيل المثال - معتمدين على الإسلام كقومية أكثر من العروبة التي لم تكن قد اكتسبت وضعها الحالي في الدولة الجزائرية الصاعدة.
ثانياً: لقد عرف تاريخ الحضارة العربية الإسلامية نوبات من الانحرافات الفكرية والخطايا المذهبية ومحاولة استخدام الإسلام الحنيف في غير ما أعد له وما أنزل من أجله، فعرفنا موجات «الزندقة» وقوافل «الخوارج» وجرائم «المتمردين» على روح الإسلام السمحاء ومزاجه الوسطي الذي لا يتفق مع الغلو والتطرف والعنف، إذ إن الدعوة إليه تعتمد على الحكمة والموعظة الحسنة ولا تعرف الإكراه (لا إكراه في الدين) بل تحترم الديانات الأخرى خصوصاً السماوية التي جاءت الدعوة الإسلامية مكملة لها ومتسقة معها. إذ إن أهل الكتاب هم شركاء في الإله الواحد ويقفون على أرضية مشتركة من أجل الدعوة إلى كل الفضائل ونبذ كافة الرذائل، لذلك فإن ما نشهده الآن من جرائم تنظيم «داعش» وأقرانه إنما هي خروج عن صحيح الإسلام نصاً وروحاً، فهم يمثلون فئة منا خرجت علينا وأساءت إلينا. إنني أشعر بحق بأن ما يفعلونه هو ظلم للإسلام المفترى عليه.
ثالثاً: إننا لا نبتدع مواقف داعمة للإسلام كما أننا لا نستدعي مبررات لسنا في حاجة إليها لأن كل من درس الإسلام في تعمق وحياد ووصل إلى جوهره الحقيقي أدرك أن ما يحدث باسمه الآن هو افتراء عليه بل وتآمر ضده، ولقد حفلت الكتابات الغربية بالكثيرين ممن اهتموا بالديانة الإسلامية. وما أكثر المستشرقين الذين انتشروا في ربوع العالمين الإسلامي والعربي وأدركوا أهمية الإسلام في إحداث توازن في المنطقة بحيث تجاوز تأثيره الدول التي تدين غالبيتها به أو تمضي وراءه. ولكن القراءة المسطحة للإسلام وتعاليمه هي محاولة خبيثة لتشويه صورته وللنيل من مكانته، ولا أزعم أن علاقة الإسلام بغيره كانت دائماً سخاءً رخاءً، فالحروب المسماة بالصليبية هي خير شاهد على ذلك. كما أن المواجهة التي جرت في الأندلس وأدت إلى طرد العرب واليهود منها هي أيضاً مؤشر على تأثير العامل الديني في توجيه حركة التاريخ وتأجيج حدة الصراع بين الأمم والشعوب.
رابعاً: إن الغرب هو الصانع الحقيقي للإرهاب المعاصر ولنتذكر من الذي صنع «القاعدة»؟ إنها الحرب الروسية الأفغانية ودور الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا معروف في تجنيد العناصر المختلفة في صفوف المجاهدين الذين تحوَّل معظمهم بعد ذلك إلى إرهابيين. فتنظيم «القاعدة» ولد وترعرع في أفغانستان بينما كان ميلاد تنظيم «داعش» في العراق، ومأساة العراق كلها صناعة أميركية نتيجة استثمارها لخطايا صدام حسين ومغامراته في تاريخ المنطقة. فالإرهاب القادم إلى بؤر الصراع الساخنة هو الذي صنع الإرهاب فيها بعد ذلك وصدَّره منها، ثم نرى الغرب يتباكى في النهاية محاولاً إلصاق الموجات الإرهابية بالإسلام الحنيف وهو من كل ذلك براء. إذ لا يوجد دين سماوي أو أرضي يدعم الإرهاب أو يبرر جرائمه أو يقبل بالعنف العشوائي، لذلك فإن الحملة الممنهجة ضد الإسلام والمسلمين لا يجب أبداً أن تتحول إلى توجه عنصري أو فزَّاعة جديدة كنوع من الإرهاب المضاد الذي يندفع بلا وعي من دون فهم للأسباب والمبررات أو الظروف والملابسات. إننا أمام «مكارثية» جديدة تطيح بالحريات وتأخذ الآخرين بالشبهات وتعصف بروح التسامح خصوصاً أن المسلمين في العالم هم أول ضحايا الإرهاب وهم دافعو ضريبة وجوده وانتشار جرائمه.
خامساً: إن المشهد الدولي الراهن بكل ما فيه من دماءٍ وأشلاءٍ وانفجاراتٍ واغتيالاتٍ يقف وراء معظمها الإرهاب بكل صوره وأشكاله. إن هذا المشهد يدعو الإنسانية والثقافات والديانات بل والبشر جميعاً، فنحن كلنا في قارب واحد، إلى المضي معاً على طريق واحد لمواجهة هذا الإرهاب بدلاً من توزيع الاتهامات ووضع الإسلام في قفص الاتهام بسبب جرائم لم يرتكبها ولا يوافق عليها. فالمسلمون حالياً يواجهون عقاباً مزدوجاً، أوله رد فعل الأعمال الإرهابية عليهم من جانب دول الضحايا وفي الوقت نفسه، فإنهم يدفعون الثمن مرة أخرى بالممارسات الإرهابية المباشرة ضدهم. ويكفي أن نتذكر أن عدد ضحايا العمليات الإرهابية من المسلمين أكبر عشرات المرات من ضحايا أتباع الديانات الأخرى، فالإرهاب أعمى لا يفرق بين دين وآخر أو قومية وأخرى. ومن هذا المنطلق يجب علاج هذه الظاهرة باعتبارها ظاهرة عالمية تستهدف البشرية من دون أن يقودنا ذلك إلى تفكير عنصري أو تعصب ديني خصوصاً أن العنف يولد العنف. من هنا تبدو أهمية التعامل بحكمة وصرامة في الوقت ذاته مع تلك الظاهرة التي تستهدف الجميع بلا استثناء. أما أشقاؤنا البشر في العالم فنقول لهم: تذكروا أن ما يسمونه «الإرهاب الإسلامي» قد وصل إلى قلب الأماكن المقدسة واحتلت بعض عناصره البيت الحرام منذ عقود عدة، وهو نفسه الإرهاب الذي ذبح الكاهن الفرنسي العجوز في جريمة نكراء يندى لها جبين الإنسانية.
بعد هذه الملاحظات الخمس ندرك أننا أمام خطر مشترك يحتاج إلى تضافر دولي شامل يواجه الظواهر الناجمة عن تداعيات الممارسات الدامية للموجات الإرهابية المتتالية. ولا بد من تشريع دولي يجرم كل الأعمال الإرهابية والتصريحات العنصرية أو المساس بالأديان السماوية أو الغمز واللمز من ثقافة بذاتها أو حضارة بعينها. إن الإسلام براء من كل ما نشهده في العقود الأخيرة، وحتى تستقيم الأمور لا بد من وقفة موضوعية واعية تنظر إلى الظاهرة بكل أبعادها من دون تمييز أو تفرقة بين من تضرروا منها أو دفعوا ثمناً فادحاً لها.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 9 اغسطس 2016
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/823985/شباب/الإسلام-المفترى-عليه