لم يتمكن العرب مجتمعين من إقامة تحالف تاريخي مع إحدى القوى الآسيوية الكبرى، ولعلي أخص منها الصين بقيادتها للعالم كمياً في شكل مطلق وكيفياً إلى حد كبير، أو الهند بقربها من العالم العربي وجوارها لمنطقة الخليج وتاريخها المتواصل والمشتبك مع الحضارة العربية الإسلامية، أو اليابان بتقدمها التكنولوجي وقدرتها المتواصلة على النهوض إلى الأمام بعد الكبوات الكبرى مثلما حدث لها في نهاية الحرب العالمية الثانية، ورغم أن الاتجاه شرقاً في العمق الآسيوي البعيد وفي ظل التطورات الهائلة التي تعبر الفضاء الإنساني كل يوم، إلا أن التجارب الآسيوية الكبرى تبقى مثار الاهتمام ومركز صناعة المستقبل، ولقد لفت نظري أن أشقاءنا الأفارقة قد أقاموا مؤتمرات كبرى مع القوى المهمة في العالم ومنها «المنتدى الهندي الأفريقي» و «قمة أفريقيا والصين» لأن العالم بدأ يدرك أن التواصل مع قوى متعددة هو خير ضمان للتبادل التكنولوجي والتقدم الاقتصادي والتنسيق السياسي والحوار الثقافي، وسوف أكتب اليوم عن الهند تحديداً لأنني عشت فيها أربع سنوات (1979-1983) وعرفت عن شعبها وإنجازاته وتاريخها وعجائبها والتركيب الاجتماعي لسكانها وغرابته ما يجعلني أقول مطمئناً (أن من لم يرَ الهند لم يرَ العالم) فهي مدرسة كبرى للمعرفة والفهم الحضاري والتذوق الثقافي، وقد لفت نظري أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يقوم بزيارة الى الهند هي الثانية في غضون أقل من عام واحد بعد أن انقطع التواصل بين القاهرة ونيودلهي سنوات طويلة، ولعل تلك الزيارات تكون فاتحة لعلاقات عربية هندية وثيقة وهي علاقات قديمة ضاربة بجذورها في حضارات ما قبل التاريخ حتى تطلعت الحضارة العربية الإسلامية إلى أرض الهند باعتبارها أرض الأحلام والآمال والمعجزات، ولقد كتب المفكر العربي الكبير البيروني كثيراً عن الهند وأدهشه ذلك الجوار الواضح بين التقدم والتخلف وبين الفقر والغنى في بلاد الهند، فالهند متحف الزمان والمكان فهي حالياً دولة فضاء ودولة نووية وإحدى الدول الصناعية العشر الكبرى كما أنها دولة «اكتفاء ذاتي» من الحبوب الغذائية لما يزيد على بليون ومئتي مليون نسمة، وقد كانت الهند وإحدى الدول العربية (مصر) تقفان على خط واحد في التقدم التقني أثناء ستينات القرن الماضي حتى كانتا شريكتين في صناعة الطائرة، ومن سخريات القدر أن الهنود كانوا يصنعون جسم الطائرة بينما تصنع مصر الجزء الأكثر تعقيداً وهو المحركات، فأين هم وأين نحن؟ ومن يزور منطقة الخليج لا بد أن يشعر بأنه على رغم عروبة تلك الدول، إلا أن هناك بعض التأثيرات القادمة من الشرق تمارس تأثيرها في شعوب الخليج في مزيج هندي فارسي يبدو في ألوان الطعام وطبيعة بعض الأزياء بل وأحياناً أنماط المعيشة، ولا شك في أن الهند مرشحة أكثر من غيرها لكي تكون شريكاً حضارياً للعرب من خلال تطوير قضايا الاستثمار والتنمية والتركيز على العلاقات الثقافية بين الأمتين العربية والهندية، وسوف يقول قائل على الفور إن المشكلة بين العرب والهنود أحياناً هي أنها تمر بطرف ثالث، ونعني به دولة باكستان الشقيقة والأمر في نظري لا يمثل مشكلة حقيقية، إذ إن الكيان الباكستاني هو امتداد طبيعي للثقافة الهندية المشتركة، فالدولتان (الهند وباكستان) خرجتا من رحم حضاري واحد ولا يمثل الإسلام مشكلة حقيقية للهنود، إذ بقي في الدولة الهندية عُشر سكانها على الأقل من المسلمين بعد قيام دولة باكستان، لذلك فالقضية ليست دينية على الإطلاق بيننا وبينهم، من هنا فإنه يبدو معقولاً ومقبولاً ألا تكون العلاقات العربية الهندية على حساب علاقاتنا الوثيقة بدولة باكستان الشقيقة، ولعلي أطرح في هذه المناسبة الملاحظات التالية:
أولاً: إن الهنود شعب عملي بالطبيعة وبرغم العمق الثقافي الذي يعيشون على تراثه، إلا أن لغة المصالح تبدو أكثر فهماً لديهم من معظم شعوب العالم، وأنا أتذكر من سنوات عملي هناك في أعقاب توقيع اتفاقيات «كامب ديفيد» أن العلاقات بين القاهرة ونيودلهي أصبحت فاترة للغاية من جانبهم لأنهم اختاروا أن يقفوا مع أغلب العرب في رفض سياسات الرئيس أنور السادات حينذاك، والواقع أنها كانت حسابات مصلحية لا علاقة لها بالمبادئ السياسية فهم يرون أن مصالحهم في دول الخليج وجالياتهم في العالم العربي أهم عشرات المرات من امتداد تاريخي لعلاقات وثيقة مع القاهرة خصوصاً أن عبد الناصر ونظامه لم يكونا في تلك الفترة محل اهتمام أو رعاية في عاصمة بلاده، ولا شك في أن الهنود يتطلعون إلى الثروات العربية وإلى آفاق الاستثمار فيها بكثير من الفطنة الهندية المعهودة والنشاط الجاد والرغبة في تحقيق المصالح العليا لتلك الدولة الكبيرة.
ثانياً: لقد سعت الهند أكثر من مرة للحصول على عضوية «منظمة التعاون الإسلامي» على اعتبار أنها تضم ما يقرب من 120 مليون مسلم ولكن حواجز عربية وإسلامية حالت دون ذلك حرصاً على الشعور الديني لدولة باكستان وإحساساً بأن الوجود الباكستاني داخل المنظمة يعتبر إلى جانب اندونسيا هو الأهم بين الأقطار الإسلامية في تلك القارة الواسعة.
ثالثاً: يجب أن نعترف أن العلاقات الهندية الإسرائيلية قد تغيرت كثيراً واقتربت الدولتان إلى حد الحديث عن التعاون النووي بينهما، ولكن ذلك يجب ألا يكون على حساب علاقات العرب بنيودلهي، فلقد قال الهنود بعد توقيع اتفاقيتي السلام بين كل من مصر والأردن مع الدولة العبرية: إننا لن نكون ملكيين أكثر من الملك! وهم يدركون أهمية التعاون التكنولوجي مع إسرائيل والمشاريع المشتركة لتطوير السلاح، ولقد رصدت شخصياً أثناء عملي في السفارة المصرية بالعاصمة الهندية منذ نهاية سبعينات القرن الماضي إرهاصات التقارب الإسرائيلي الهندي وتابعت زيارة خاطفة للسيدة انديرا غاندي رئيسة وزراء الهند الراحلة للقنصلية الإسرائيلية في مومباي وكان ذلك في إطار إحدى الحملات الانتخابية لحزب المؤتمر الهندي حينذاك.
رابعاً: إن العمالة الهندية، ليس في الخليج العربي وحده، ولكن في أنحاء المشرق العربي ومصر تمثل وجوداً ثقافياً متزايد التأثير في المجتمعات التي تعيش معها أو تنضم إليها، ولقد حرص الهنود على الاستثمار في عدد من القطاعات من بينها القطاع السياحي وفروع الفندقة حتى أن واحداً من أقدم فنادق الشرق وهو فندق «مينا هاوس» على سفح أهرامات الجيزة ظل تحت إدارة شركة «أوبروي» الهندية سنوات طويلة.
خامساً: إن الهنود يتمتعون بأكبر ديموقراطية في العالم المعاصر وهم يخرجون إلى الانتخابات النيابية على امتداد ثلاثة شهور كل عام لكي يعطي مئات الملايين أصواتهم ويختاروا من يمثلون تلك الأمة العريقة في غرفتي المجلس النيابي وأعني بهما «الراجا صابها» و «اللوك صابها»، كما أن الهند تتمتع بنظام برلماني حقيقي يجعل من رئيس الدولة رمزاً يملك ولا يحكم، وقد اختاروا عدداً من رؤساء الجمهورية الهندية من بين الأقلية المسلمة نتذكر منهم ذاكر حسين وفخر الدين علي أحمد وعالم الصواريخ عبد الكلام، ولقد عرفت أيام وجودي في العاصمة الهندية نائب رئيس الجمهورية الذي كان مسلماً أيضاً وهو السيد محمد هداية، كذلك فإن قائد الطيران الهندي كان في فترة ماضية هو الجنرال طيار لطيف، فليس لدى الهنود من الناحية السياسية مشكلات طائفية أو عرقية ولكن قاع المجتمع الهندي يحفل بذلك خصوصاً في تجمعات المنبوذين والفقراء، ولا عجب فهي دولة «المهراجات» وأيضاً دولة أفقر البشر! ولقد انتقلت الهند من حليف تقليدي للاتحاد السوفياتي السابق إلى صديق قريب من قلب الولايات المتحدة الأميركية ونظامها السياسي.
هذه هي الأمة الهندية، بكل ما لها وما عليها، تتقدم نحو القارة الأفريقية في شرقها وغربها بخطوات واسعة، فالعلاقات وثيقة بينهما والتاريخ طويل وحافل، ويكفي أن نتذكر أن المهاتما غاندي عاش سنوات شبابه في جنوب أفريقيا، وأنا أتطلع كعربي من مصر إلى علاقات وثيقة بين الأمتين العربية والهندية بما لا يمثل مساساً بالعلاقات الوثيقة، أيضاً مع الشعب الباكستاني الذي يتفهم جيداً ما يمكن أن نمضي فيه والذي قد يكون في ذلك خدمة له ولعلاقاته بالدولة الأم الهند الكبرى، وما زلت أتذكر تلك الحرب الضارية بين الهند وباكستان والتي تحولت بها باكستان الشرقية إلى جمهورية بنغلادش ولكن ما زالت أواصر الروح المشتركة تربط بين الدول الثلاث التي كانت ذات يوم دولة واحدة ولكنها تصاريف القدر وألاعيب السياسة الدولية والدور البريطاني التي صنعت المخطط الأكبر للخريطة السياسية المعاصرة!
تحية للعلاقات العربية الهندية، مصلحةً مشتركة وصداقةً عميقة وتقارباً لا ينتهي.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 5 سبتمبر 2016
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/826146/شباب/العرب-والهند-صداقة-عميقة-ومصالح-مشتركة