مر على البيت الأبيض في واشنطن سكان كثر، فهو مقر العشرات من رؤساء الولايات المتحدة الأميركية وبقي علامة للسياسة الأميركية مثلما هي عشرة داوننغ ستريت في لندن أو الكرملين في موسكو أو الإليزيه في باريس، وها هو قادم جديد يتهيأ لاقتحام البيت بعد معركة انتخابية ضارية اتسمت بالشراسة وحدّة المنافسة حتى جاءت النتيجة على غير ما توقع الكثيرون وأصبح سيد البيت الأبيض شخصية استثنائية بكل المعايير، فهو رجل أعمال لم يمارس العمل السياسي ولم يكن عضواً في الكونغرس ويسبقه تاريخ طويل من التصرفات والمواقف غير المألوفة في هذا الموقع الخطير لحاكم لا يعلوه إلا الله سبحانه وتعالى، ولقد استقبل العرب القادم الجديد إلى البيت الأبيض بمشاعر متباينة يبدو معظمها ظاهرياً غير متعمق، فالمصريون رحبوا به لأنهم كانوا يدركون أن هيلاري كلينتون تحمل معها مشروعاً ضاغطاً على الدولة المصرية لمبررات تتصل بقناعات غير صحيحة من جانبها، وقد استقبله عرب الخليج بشيء من الحذر خصوصاً أن تصريحاته في المعركة الانتخابية قلصت من أعداد المتحمسين له خصوصاً لأسباب تتصل بمواقفه من المسلمين داخل الولايات المتحدة الأميركية وخارجها والارتباط الشرطي المتعمد في ذهنه بين الإسلام والإرهاب، بينما تحمس له على الجانب الآخر نظام الحكم في دمشق حتى أن الرئيس الأسد سارع بإبداء استعداده للتعاون مع الرئيس الأميركي الجديد في مواجهة الإرهاب والسعي الى إنهاء النزاع الدموي في سورية. وإذا تحركنا قليلاً سنجد أن طهران استقبلت الحاكم الأميركي الجديد بشيء من القلق لأنه كرر في أكثر من مناسبة أنه ينوي إعادة النظر في الاتفاق النووي بين إيران والدول الغربية. ووسط هذا الخضم من المشاعر المتباينة فإن إسرائيل تكاد ترقص طرباً لأن رئيساً غير تقليدي قد صعد إلى الموقع الأعلى في واشنطن وهو يجاهر بدعمه المطلق لإسرائيل ويزيد على أسلافه بأنه سيسعى الى نقل عاصمة إسرائيل إلى القدس، وهو أمر أيده الكونغرس أكثر من مرة ولكن الإدارات الأميركية المتعاقبة تحفظت عليه على اعتبار أنه يمثل أعلى درجات الاستفزاز للجانب الفلسطيني، فضلاً عن أنه عمل إجرائي عدائي للعرب جميعاً، وإذا كانت موسكو قد طربت لفوز ترامب فإن دولاً أوروبية أخرى طرحت تساؤلات مشروعة حول مستقبل سياساته وكانت فرنسا في مقدم الدول التي طلبت تفسيرات لكثير من تصريحاته أثناء الحملة الانتخابية، ولعلنا نفصل هنا بعض ما أوجزناه:
أولاً: لا يمكن لنا الجزم بالتوجهات الحقيقية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، فالتصريحات الانتخابية لا تعبر بالكامل عن السياسات المنتظرة لصاحبها لأنها محكومة بأجواء المنافسة التي تسيطر على الحياة السياسية أثناء الانتخابات الرئاسية، ومع ذلك فإننا لا نستطيع تجاهل الخطوط العريضة لتوجهات الرئيس بدءاً من الحرب على الإرهاب مروراً بالتضييق على المسلمين في الولايات المتحدة الأميركية ودخولهم إليها وصولاً إلى الدعم شبه المطلق للدولة العبرية إسرائيل مع إعادة النظر في سياسة الانتشار الأميركي وتطبيق مفهوم جديد للشوفينية الأميركية التي قد تتجه إلى العزلة وتفرض أسواراً حمائية على الدولة في كل اتجاه، ولقد بدأ الرئيس الأميركي المنتخب ومعاونوه محاولات تخفيف حدة بعض التصريحات السابقة التي تركت أثراً سلبياً خصوصاً خارج الولايات المتحدة الأميركية، ومع ذلك فإن انتخاب الرئيس الجديد لمعاونيه الكبار يعكس بدرجة واضحة توجهاته المحتملة وهي تتجه نحو اليمين المتطرف وتبدو وكأنها رسالة تشير إلى أن واشنطن تدخل مرحلة تغيير فكري وليس مجرد تحول سياسي.
ثانياً: إن وصول ترامب الى السلطة لا يجب تناوله بمعزل عن التغيرات الجارية في عالم اليوم، إذ إنه جزء من دورة جديدة في السياسة الدولية تتجه نحو اليمين بدءاً من تصويت الشعب البريطاني على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، مروراً بتنامي الأحزاب اليمينية في الدول الأوروبية الأخرى خصوصاً فرنسا، فضلاً عن الإحساس بأن الرئيس الأميركي الجديد جاء إلى السلطة بعقلية رجل الأعمال الناجح والجسور في قراراته، وفي الوقت ذاته سيدخل في حرب اقتصادية مع الصين وربما مواجهة أمنية جديدة مع إيران خصوصاً عندما يقرر ترامب المضي في قصر التسليح على الجيوش النظامية من دون الجماعات والأحزاب مستهدفاً بذلك «حزب الله» بالدرجة الأولى، كذلك فإنه سيسعى إلى تعظيم إمكانات الاقتصاد الأميركي والإقلال من تورط بلاده في المشكلات الدولية التي لا تمس مباشرة المصالح العليا للولايات المتحدة.
ثالثاً: ليس من شك في أن الولايات المتحدة الأميركية تسعى حالياً إلى التركيز على شؤونها قبل غيرها حتى رفع ترامب شعار «أميركا أولاً» فلم يعد هناك مبرر لكي تتراكم نفقات الحروب والنزاعات على المواطن الأميركي حتى أن الرئيس المنتخب لمح في حملته الانتخابية إلى أطماعه في بترول العراق والخليج، وأيد في الوقت ذاته توجهات قوات شرق ليبيا وهو يدرك أن المشكلة أفريقية عربية إسلامية ذات اهتمام أوروبي خاص. إننا أمام رئيس يأتي بانقلاب كامل في مسار السياستين الداخلية والخارجية للولايات المتحدة الأميركية على رغم أن المفترض أنها دولة مؤسسات لا تتأثر كثيراً بتغيير الرؤساء ولا بتداول السلطة بين الأحزاب.
رابعاً: يتردد قول متواصل بأن الولايات المتحدة الأميركية لن تنظر إلى الشرق الأوسط بنظرة الاهتمام نفسها التي كانت عليها من قبل ولن تستأثر المنطقة بما حظيت به في العقود الأخيرة من اهتمام وتدخل أميركي سافر، إذ إن النفط وهو سلعة استراتيجية قد بدأ يفقد بعض الاهتمام به من جانب الغرب، كما أن أمن إسرائيل أصبح مكفولاً إلى حد كبير بسبب الأوضاع في العراق وسورية وربما مصر أيضاً، لذلك فإن الدوافع الأميركية تجاه الشرق الأوسط ستكون مركزة إلى حد كبير على الحرب ضد الإرهاب الذي تمثله تنظيمات متطرفة مثل «داعش» وتوابعه.
خامساً: إن الرئيس الأميركي الذي يأتي إلى السلطة من خارج الدائرة السياسية هو نمط جديد في الحكم يجب أن نتلمس خطانا عند التعامل معه، خصوصاً أنه محاط ببعض العناصر الأقرب إلى التشدد والتطرف من غيرها على الجانب الآخر، ويكفي أن نشير هنا إلى زوج ابنته اليهودي الديانة والذي أطاح اثنين في حملة ترامب الانتخابية وهو يسعى جاهداً أكثر من مرة حتى يوفر لصهره إمكانات أكبر في النجاح للوصول إلى أرفع منصب تنفيذي في العالم.
سادساً: إن الحرب على الإرهاب ليست مهمة سهلة ولا نزهة مطلوبة بل هي أكبر من ذلك وأخطر لأنها ستقتضي تعاوناً بين قوى دولية وأخرى إقليمية لمواجهة عدو من نوع خاص قد لا يمكن تعقبه في فترة وجيزة. إن ما نشهده على الساحة هو تأكيد لهذا المعنى، إذ إن مستودع المعلومات تجاه قوى الشر يبدو كامناً ولن تكون الحرب على الإرهاب يسيرة من دون تماسك عربي يضم الدول المختلفة التي تدرك مخاطره وتعرف مغبة التعامل مع هذا النمط الخطير والشرس من أمراض البشرية.
سابعاً: إن الذين صنعوا المواجهة الوهمية بين ترامب الرئيس الأميركي المنتخب وبين العناصر الوطنية في بعض الدول واهمون وغير مدركين لعواقب الأمر، إذ إنه ليس من قبيل الصدفة أن تتداعى الأحداث في الشهور الأخيرة بهذا الترتيب النمطي غير المسبوق لكي نرى مزيداً من الاضطرابات ونشهد العديد من الانفجارات السياسية والخلافات داخل الأمة الواحدة على نحو يجعل مجيء ترامب إلى السلطة مقترناً بفترة حاسمة بسبب خطورة المنصب الذي يشغله، فرئيس الولايات المتحدة الأميركية يبدو للبعض وكأنه رئيس العالم لا يعلوه إلا خالقه سبحانه وتعالى، ولقد أسرفنا على أنفسنا كثيراً في الشرق الأوسط والمنطقة العربية من خلال الوهم الذي نعيش فيه متصورين أن مقاديرنا بيد غيرنا وأن حمايتنا تأتي من خارج أرضنا حتى أصبح تحكم القوى الدولية مؤثراً في القوى الإقليمية بصورة تنعكس على المشهد الحالي حولنا.
هذه ملاحظات أردنا بها أن نستقبل الساكن الجديد للبيت الأبيض وهو ساكن غير نمطي جاء بأفكار وسياسات غير معتادة واتبع أساليب لم تكن معهودة في الحملات الانتخابية من قبل ووضع العالم في حيرة أمام بحر من التوقعات والاحتمالات على اعتبار أن العالم ينظر إلى السياسة الخارجية الأميركية وكأنها المتغير المستقل الذي تتبعه المتغيرات الأخرى، بل والتحولات الكبرى في عالم اليوم. إن الرئيس الأميركي الجديد يبدو وكأنه هبط على عالم السياسة بالباراشوت ليضخ توجهات غريبة وأفكاراً غير معتادة، ولعلنا نحن العرب نتابع عن كثب تطور مواقفه ونرقب عن قرب ما سيأتي به دونالد ترامب للعالم كله في سنواته المقبلة!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 28 نوفمبر 2016
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/833107/شباب/العرب-والساكن-الجديد-في-البيت-الأبيض