رحل عن عالمنا منذ فترة وجيزة المفكر الجزائري محمد الميلي الذي ربطتني به علاقة طويلة عبر السنين، خصوصاً في الفترة التي عمل فيها سفيراً لبلاده في القاهرة، وتبدو أهميته في ظني من الدور العروبي الذي لعبه حتى أصبح مديراً للمنظمة العربية للثقافة والعلوم. عرفته عن قرب وخبرت من خلاله شخصية المغرب العربي بدوله المختلفة التي تبدأ من الحدود الغربية لمصر إلى شاطئ المحيط الأطلنطي فقد انشغلت فترة من دراستي للفكر القومي في المقارنة بين عرب المشرق وعرب المغرب خصوصاً وأن بلادي تمثل همزة الوصل بين جناحي المشرق والمغرب عبر العصور، وقد دخلت مع محمد الميلي في حوارات طويلة ومساجلات امتدت شهوراً عرضت بعضها برسائله لي في كتابي «الرؤية الغائبة» في مطلع تسعينات القرن الماضي، وكنت أعرف أنه سليل بيت طيب وأن زوجته الفاضلة السيدة زينب الإبراهيمي هي الأخرى سليلة بيت إسلامي مؤثر في دولة الجزائر الحديثة.
ولا شك في أن محمد الميلي كانت له إسهاماته الكبيرة في «معركة التعريب» في الجزائر، كما كان صوتاً قومياً وعروبياً على الدوام لا يناظره على الجانب الآخر إلا شخصيات من المغرب؛ الدولة التوأم للجزائر - على رغم خلافات الأشقاء ونزاعات الحدود - من أمثال مجموعة المفكرين الكبار في الجامعات المغربية وأصحاب المبادرات الثقافية الكبرى وفي مقدمهم صاحب «منتدى أصيلة»؛ محمد بن عيسى؛ وزير الثقافة ثم الخارجية في المغرب. ولا بد أن أعترف أننا نحن عرب المشرق لا ندرك دائماً القيمة الحقيقية لإسهامات العرب المغاربة في المجالين الفكري والثقافي، من هنا تبدو أهمية الإشارة إلى مفكر جزائري كبير بحجم محمد الميلي الذي اشتغل بالسياسة والديبلوماسية وبالثقافة والأدب وعرك الحياة في كل اتجاه وربطته بعدد كبير من الشخصيات المهمة في عصره صلات قوية. ولعلنا نتذكر منها الصداقة الوطيدة بين أسرته وأسرة الكاتب المصري الراحل محمد حسنين هيكل. وتعود صلتي بمحمد الميلي إلى لقاءاتنا الفكرية المبكرة وما كان يقصه عليَّ من أحداث التاريخ السياسي والتطور الفكري لبلاده خصوصاً أن الجزائر كانت هي أول بلد أزوره عندما ركبت الطائرة للمرة الأولى لأحضر مؤتمراً في عاصمتها مطلع حزيران (يونيو) عام 1966 حيث كنت أمثل الشباب المصري في احتفال عيد الثورة ونقل رفات الأمير عبدالقادر الجزائري من دمشق إلى بلاده. ويومها سعدت بلقاء الرئيس الراحل هواري بومدين وعاصرت أياماً كانت فيها «معركة التعريب» هي الهاجس الذي يسيطر على الجزائريين غداة الاستقلال. وفي هذه المناسبة أطرح بعض الأفكار المتصلة بعلاقات المشرق والمغرب العربيين:
أولاً: إنني أتذكر محمد الميلي وقرينته الفاضلة التي تعتبر من أكثر النساء العربيات فصاحة في القول وقدرة على السخرية، وكان محمد حسنين هيكل - وأسرته - يلتقيها هي وزوجها الراحل فتقول إنني جئت إلى مصر لأرى المستقبل من حيث مشكلاته وتحدياته (جينا مصر باش نشوف المستقبل) فالمشكلات المصرية هي مرحلة متقدمة من المشكلات العربية، وعلى سبيل المثال فإن المشكلة السكانية في مصر ظهرت أيضاً في الجزائر وفي غيرها من الدول العربية الأخرى. لذلك كانت زيارات الميلي وقرينته وكأنها مناسبة ثقافية نعتز بها، وقد كان لي شرف استضافتهما وبعض مرافقيهم في منزل خاص بي تكريماً لهم واعتزازاً بصداقتهم وكان ذلك في عهد الرئيس الجزائري اليمين زروال، وأتذكر أنها تندرت في الحديث مع صديق عراقي في عهد صدام حسين وقالت له: إنكم في بلادكم لستم حاكماً ومحكوماً ولكن قاتلاً ومقتولاً! أطال الله في عمرها لتكمل رسالة زوجها العربي القومي أحد أعمدة التعريب في شمال إفريقيا.
ثانياً: التقيت الصديق محيي الدين عميمور؛ وزير الإعلام الجزائري السابق كثيراً على هامش مؤتمرات مؤسسة الفكر العربي وأسعدني كثيراً أننا جلسنا نتبادل الذكريات، وكان محمد الميلي والسيدة قرينته أحد محاور الحديث عن الجزائر وتطورها السياسي والاقتصادي والثقافي والديموغرافي، واتفق رأينا على أن لدى الجزائر إمكانات هائلة في مجالات متعددة فضلاً عن شعب شديد المراس قوي البأس، وكان محمد الميلي يجسد ذلك كله مع ثقافة عميقة وفكر مستنير.
ثالثاً: إنني أكتب اليوم بمناسبة رحيل ذلك المفكر الجزائري الصديق، وأذكر له دائماً فهمه لروح عرب المشرق ومزاجهم المختلف نسبياً عن المغرب العربي، وأدرك أن تواصل المثقفين بين أقاليم العالم العربي هو أمر مطلوب ومحبوب إذ يجب أن تضم المحافل دائماً مثقفي الخليج والجزيرة بالإضافة إلى مثقفي المشرق العربي من الشام والعراق جنباً إلى جنب مع مثقفي دول وادي النيل والاتحاد المغاربي واضعين في الاعتبار أن الثقافة هي روح العصر وهي العامل الرئيس في التناغم القومي المعاصر، كما أنها أغلى سلعة عربية نعتز بها منذ أن كان الشعر العربي هو ديوان الحياة في العصور المتعاقبة. بقي أن نتذكر في هذه النقطة أن ثلثي العرب يعيشون في القارة الإفريقية.
رابعاً: لقد سيطرت العلاقات الجزائرية المغاربية على فكر المثقف الجزائري الراحل، ولا يخفى على عربي واحد ذلك التجانس السكاني بين البلدين الشقيقين المتجاورين ولكن يبدو أنها لعنة تهبط علينا فتضرب حسن الجوار وتسيء إلى العلاقات بين الأشقاء خصوصاً من كانوا منهم جيراناً على خريطة البر أو البحر. ونحن نستلهم من روح الميلي الذي كان يسعى دائماً إلى تحسين العلاقات بين دول المغرب العربي في جانب وبين تلك الدول وبقية أرجاء الوطن العربي في جانب آخر؛ أن يكون مستقبل هذه الأمة أفضل بكثير من حاضرها وأن يعلي الجميع المصالح القومية العليا فوق أي اعتبار آخر. ونتطلع أيضاً مع روح الميلي إلى أن تدخل العلاقات الجزائرية المغربية مرحلة من الاستقرار الذي يعود على الشمال الإفريقي كله بالخير ويزيد العرب قوة ويحرم أعداءهم ميزة خصوصاً أن نزاعات الحدود أمر شائع في العالم كله لا نتصور أن منطقة تستأثر به من دون غيرها ولكن يجب حلها كلها في إطار موضوعي من الأخوة العميقة والفهم المشترك. ولا شك في أن الشعب المغربي العريق الذي ساند الثورة الجزائرية في مراحلها كافة هو أول من يدرك أهمية العلاقات بين البلدين الشقيقين.
خامساً: إننا نقول في مصر مثلاً إنه بدءاً من مدينة الإسكندرية شرقاً على ساحل المتوسط فتلك هي (ثقافة الأرز) بينما من الإسكندرية غرباً فتلك هي (ثقافة الزعبوط) تمييزاً للمزاج الشرقي عن المزاج الغربي لجناحي الأمة. ولا شك في أن دول المغرب العربي قد تأثرت من قربها بأوروبا وتفاعلت معها ونقلت عنها حتى أصبحت سبيكة عربية أوروبية؛ إن جاز التعبير. وكان الميلي ذاته تجسيداً لذلك إذ إن اطلاع أبناء المغرب العربي خصوصاً في تونس والجزائر والمغرب على الثقافة الفرنسية؛ أعطاهم ميزة لم تتحقق لأشقائهم في المشرق.
وحتى ظاهرة الإسلام السياسي تبدو في المغرب العربي أكثر سلاسة ومرونة عن غلواء التعصب الذي عانت منه بعض المناطق في الشرق العربي؛ خصوصاً في منطقة الخليج ومصر؛ واضعين في الاعتبار أن النجاح النسبي للنموذج التونسي بعد الثورة؛ مقارناً بالمتاعب التي تعرضت لها مصر يتصل في شكل أو آخر بهذه النقطة تحديداً. ففكر حزب النهضة التونسي يختلف عن جماعة «الإخوان المسلمين»، ويكفي أن نتذكر أن الشيخ الغنوشي قد صرَّح بقبوله أفكار الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة ورؤيته المجتمع المدني ودور المرأة فيه. إن تأمل العلاقات بين المشرق والمغرب العربيين يدعو إلى الإحساس المشترك بمفهوم العروبة؛ فضلاً عن أن الإسلام يمثل في حد ذاته قومية لعرب المغرب؛ لاسيما في الدول التي كانت ناطقة بغير العربية سنوات طويلة، فالجزائريون - على سبيل المثال - حاربوا الوجود الفرنسي تحت رايات الإسلام أكثر منها رايات للعروبة، وإذا كان الفارق بين المزاج المشارقي والمزاج المغاربي يقبل المقارنة شكلياً بين المزاج البريطاني والمزاج الفرنسي على اعتبار أن سيطرتهما كانت متزامنة على المنطقة، فإن ذلك يقترب إلى حد كبير من التباين بين المشرق والمغرب العربيين، فقد ترك الاستعمار الفرنسي بصماته خصوصاً لدى العرب الأفارقة. إن رحيل محمد الميلي؛ تلك الشخصية الاستثنائية بين سفراء الجزائر في القاهرة وهو واحد من طليعة المثقفين العرب؛ يدعونا إلى أن نتذكر أننا أمة عربية واحدة مهما تباينت المواقف واختلفت الرؤى وتعددت السياسات.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 26 ديسمبر 2016
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/835147/شباب/رحيل-محمد-الميلي-وذكريات-مغاربية