مثلما تحدث السياسيون الأوروبيون عن المسألة الشرقية في إشارة إلى «الرجل المريض»، أي الإمبراطورية العثمانية في قرنها الأخير ومثلما تحدث أيضاً كتاب يتقدمهم صبحي وحيده عن المسألة المصرية، فإننا اليوم نطرح تعبيراً موازياً لنتحدث عن المسألة العربية، وقصارى جهدنا في ذلك هو أن نتلمس طريق هذه الأمة ومستقبلها في ظل العواصف الدولية والأنواء الإقليمية التي تجعل الطريق وعراً والمسار معقداً، ولا جدال في أن المستقبل العربي مرتبط بالخصوصية القومية لهذه الأمة التي أضحت مطمعاً للطامعين ومرتعاً لمن يتطلعون لمقدراتها ويسعون للسيطرة عليها، فإذا طرحنا تعبير (المسألة العربية)، فإننا نعني بذلك مجمل المشكلات المزمنة والأزمات الطارئة التي يحملها الكاهل العربي المعاصر، ولن تكون المسألة العربية دافعاً إلى التنجيم أو قراءة الغيب، ولكنها بالتأكيد دافع نحو التنبؤ السياسي الذي قد يصيب وقد يخطئ، إذ إن درجة الإحكام في القضايا الاجتماعية المرتبطة بالإنسان ليست مثل المعادلات الرياضية أو التحاليل الطبية، فهناك دائماً هامش للصواب والخطأ لأن مسيرة الأمم وحياة الشعوب تحكمها عوامل واعتبارات لا تخضع لحسابات محددة أو توقعات مؤكدة، دعنا الآن نناقش (المسألة العربية) من خلال المحاور التالية:
أولاً: لقد حكم الصراع العربي- الإسرائيلي ما يمكن أن نسميه (المسألة العربية) في العقود الثمانية الأخيرة، وتشكلت صورة العرب لدى القوى الكبرى من خلال معطيات ذلك الصراع وتطوراته التي تشير إلى المشكلة الفلسطينية باعتبارها الهم العربي الأول، الذي تشكلت من خلاله أبعاد ما نطلق عليه الآن المسألة العربية، وإن لم تكن هي العامل الوحيد الذي تتشكل منه السياسات العربية تجاه المواقف الدولية والإقليمية، ولكن الأمر الذي لا جدال فيه هو أن ميلاد دولة إسرائيل قد وضع المسألة العربية في إطار مختلف أمام العالم بل وأمام العرب أنفسهم.
ثانياً: إن العلاقة الارتباطية التي روجت لها بعض الدوائر الدولية في السنوات الأخيرة لتجمع بين العرب والإرهاب وتضعهما في الذهن الجمعي المعاصر لخلق ارتباط شرطي بين المسلمين عموماً والعرب خصوصاً في جانب، وممارسات العنف الإرهابي في جانب آخر، إن ذلك أمر أدى إلى فاتورة فادحة يدفعها العرب في كل المناسبات، وجعل صورة العربي مشوهة إلى حد كبير، ولعلنا نتذكر الصفات الخمس التي اقترنت بشخصية العربي في عالم اليوم وتبدأ كلها بحرف B في اللغة الإنكليزية، فالعربي لديهم هوBomber ،Bedwin ،Bazar ،Billionaire and Belly Dancer، وذلك يعني أن هناك حرباً غير مقدسة حول صورة العربي لوضعه في إطار كريه يجعل تعبير المسألة العربية أقرب إلى المشكلة منه إلى الظاهرة.
ثالثاً: لقد برزت في السنوات الأخيرة تداعيات خطيرة للثورة الإسلامية في إيران وأصبحنا أمام وضع مقلق يتم فيه إزكاء الصراع العرقي بين العرب والعجم، إذ تتستر القومية الفارسية وراء عباءة الإسلام، وتطرح الخلاف المذهبي بين السنة والشيعة في المقدمة، وهو ليس كبيراً وذلك حتى يدرك الجميع أن ذلك الخلاف المذهبي هو سبب السياسات الإيرانية التي تتسم بالتدخل في الشؤون الداخلية لبعض الدول العربية، ولتظل أزمة الثقة المتبادلة والشكوك المستمرة بين إيران والعرب مصدراً مهدداً للاستقرار في منطقة الخليج يكاد يعصف بكل ما يحصل من محاولات لرأب الصدع وإصلاح ذات البين، إلا أن ما يتردد عن أطماع إيرانية في العراق ولبنان وسورية والبحرين والكويت وغيرها من الدول العربية هو مؤشر سلبي يؤكد أن الأخطار المحيطة بالجزيرة العربية ودول الخليج امتداداً لدول المشرق العربي وصولاً إلى مصر، هي هواجس تعززها بعض تصرفات طهران التي لا تتوقف، خصوصاً في ظل وجود شريك أميركي يتردد بين الطرفين.
رابعاً: إن أحداث الربيع العربي تبدو حالياً وكأنها كانت حقاً يراد به باطل حتى أنها أدت إلى نوع من الفوضى في غرب آسيا وشمال أفريقيا، فاختفى الاستقرار وتعرضت المنطقة لأخطر هزة في تاريخها الحديث، إذ انشغلت ثورات الربيع العربي بإسقاط نظم انتهت أعمارها الافتراضية من دون أن تدرك أن الإصلاح الحقيقي هو البديل الوحيد لتلك الثورات، وهو إصلاح يستدعي أن يكون ممتداً على جبهة عريضة تسمح بمواجهة المشكلات المتراكمة بل والمعضلات الموروثة، لذلك فقد طرحت أحداث ما أسميناه الربيع العربي صورة جديدة لما نطلق عليه المسألة العربية، فقد اختفت نظم وتوارت مراكز نفوذ وأصبحنا أمام مفهوم مختلف لمدلول كلمة المسألة العربية.
خامساً: لا نكاد نعرف جماعة بشرية لعب فيها الدين ذلك الدور الذي لعبه الإسلام لدى العرب وليس ذلك غريباً على منطقة تجمعت في ذاكرتها أساطير الأولين ثم أصلحتها ديانات السماء برسالات الأنبياء لذلك تكونت تلقائياً أقليات دينية من الناحية العددية فقط ولكن التركيب البشري والتكوين الإنساني يظل واحداً للجميع، لأنهم من أعراق متجاورة وربما قوميات واحدة، لذلك فإن أكثر ما يستوجب نشاطاً حقيقياً وجهداً مطلوباً هو مواجهة مسألة الأقليات في العالم العربي، ولعلنا نتذكر ما حصل للمسيحيين العرب في العقدين الأخيرين من تهجير قسري وعدوان دموي، بواسطة جماعات إرهابية لا تمت للإسلام بصلة، ولكنها تتستر به وترفع شعارات في عدوان واضح على أصحاب الديانات من أهل الكتاب وغيرهم، لذلك أخذت المسألة العربية بُعداً جديداً فيه إشارات واضحة إلى التعصب والعنف والإرهاب.
سادساً: لقد واجهت الدول العربية التي كانت تعيش على ما يمكن تسميته الاقتصاد الريعي، الذي يقوم على تصدير سلعة واحدة وكانت هي النفط بالطبع، لقد أدى ذلك إلى نوع من المواجهة مع المستقبل فسعت بعض الدول النفطية إلى الخروج من ذلك المأزق بإدخال الصناعة والاتجاه إلى السياحة بل والدخول في ميدان الزراعة من أجل إحداث تغييرات هيكلية في اقتصاديات تلك الدول، ولعل النموذج السعودي وأيضاً الإماراتي هما محاولتان للدخول في عصر مختلف بتفكير مختلف، وليس من شك في أن ذلك يضيف إلى المسألة العربية بعداً اقتصادياً قد ينشر شيئاً من التفاؤل بالمستقبل ويستثير أيضاً مشاعر عدائية لدى أطراف أخرى لا تريد استقلال الإرادة العربية ولا خروج الاقتصاد القومي من دائرة الانغلاق التي عاش فيها، وهي التي ارتبطت بثرائه والطفرة التي شهدتها مستويات الحياة في بعض الدول العربية بعد اكتشاف النفط والقفزة الهائلة في أسعاره، خصوصاً بعد الحرب العربية الإسرائيلية عام 1973 حيث أصبحنا أمام نماذج جديدة وضعت العرب في مركز الأطماع الدولية والإقليمية.
سابعاً: دعنا نعترف بأن من الآلام المشهودة في المسألة العربية هو ما أدركناه في العقود الأخيرة من تأثير التفاوت الاقتصادي في طبيعة الحياة ونوعية الحساسيات التي تولدت نتيجة التفاوت في الثروة وإحساس بعضهم بأن الفارق في مستوى المعيشة بين بعض الدول العربية يؤدي إلى حالة من الاستقطاب الإقليمي التي أثرت بالضرورة في العمل العربي المشترك بكل ما له وما عليه، إن كل التناقضات التي عرفتها الساحة العربية لا تخلو من المؤثرات الاقتصادية والتفاوت في الثروات الطبيعية والبشرية أيضاً.
ثامناً: على رغم مصادر الثروة المتعددة – طبيعية وبشرية – في العالم العربي، إلا أن المعاناة التي تسببها ظاهرة الفقر الذي استشرى في معظم الدول الناطقة باللغة العربية، هو تعبير مباشر عن جزء من أزمة الحياة وطبيعة الصراع الذي يضع الخريطة العربية في معظمها داخل إطار للجنوب الفقير في مواجهة الشمال الأكثر ثراءً، ولعلنا نؤكد هنا أن الفقر قنبلة موقوتة تؤثر في درجة الاستقرار وفي طبيعة الحياة ونوعية البشر، وهي التي تضع أمام المجتمعات تحديات جديدة قد لا تكون معروفة من قبل، ولكنها تتواجد مع تصاعد الأزمات الاقتصادية وظروف الحياة الصعبة، إنها التحديات المتصلة بأمور مثل البطالة وتوزيع الثروة والعدالة الاجتماعية.
تاسعاً: لعل من المشكلات التي أصبحنا ندركها أخيراً، ما حصل على الساحة العربية في العقود الأخيرة من تجمعات إقليمية نراها ظاهرة إيجابية، لكنها عند حد معين يمكن أن تكون بمثابة طعنة للتجانس العربي الشامل، كما أنها تمثل نعرات شعوبية وقطرية لم تكن مطروحة من قبل، وفي ظني أن كل محاولة لضرب جامعة الدول العربية أو التسفيه من قدرها، هي محاولة لا تبدو قومية الروح ولا عربية الطابع، إذ إنه يتعين علينا أن نتمسك جميعاً بتلك المؤسسة، التي نراها دائماً مركزاً للتجمع العربي الذي بدأ بعد الحرب العالمية الثانية واجتاز مصاعب كثيرة، إذ إنه على رغم أننا لا نستطيع القول إن العمل العربي من خلال الجامعة كان دائماً على ما يرام، إلا أن الأمر الذي لا جدال حوله هو أن الجامعة قد لعبت دوراً في وحدة الصف العربي حتى وإن لم تتمكن من توحيد السياسات وإحداث نوع من التناغم بين المواقف العربية للخروج بها من إطارها القطري إلى فضائها القومي.
عاشراً: سوف تظل الأجندات الخارجية لبعض الدول العربية فضلاً عن الخلافات بين الأقطار أحد المظاهر السلبية في تشكيل الشخصية العربية عموماً، كما أنها تضيف هماً آخر يؤدي بنا إلى الحديث عن أزمة العقل العربي والتي لم تبرح أن تكون جزءاً من الصورة الذهنية حول (المسألة العربية) في حاضرها ومستقبلها.
هذا طواف عام بالمحاور العشرة التي لا نستطيع الحديث عن (المسألة العربية) بمعزل عنها، أو تجاهل لها لعله يأتي اليوم الذي نسعي فيه إلى ترشيد سياساتنا وتنقية أفكارنا، وإن غداً لناظره قريب.
د. مصطفى الفقى;
جريدة الحياة العدد
تاريخ النشر:19 سبتمبر 2017
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/846656/شباب/المسألة-العربية