تمثل مسألة الهوية إشكالية تاريخية لمصر، فهي عربية اللسان والثقافة، أفريقية الموقع، تنتمي إلى العالم الإسلامي كما أنها دولة شرق أوسطية، بحر متوسطية ذات امتدادات تاريخية للأعراق المنتشرة في الشمال الأفريقي، بل إن هناك أكثر من خمس محافظات مصرية في غرب الإسكندرية والدلتا والصعيد تزخر بزخم سكاني من الشمال الأفريقي، خصوصاً من ليبيا وتونس والجزائر والمغرب، وإذا كانت مصر تعد سياسياً دولة عربية مشارقية إلا أنها جغرافياً دولة مغاربية، تنتمي في النهاية إلى دول الشمال الأفريقي، ولقد استقر هذا النمط من التفكير في رؤية بعض الساسة والديبلوماسيين، ولعلنا نتذكر كيف حاول وزير خارجية مصر عمرو موسى في منتصف تسعينات القرن الماضي التقدم بطلب لعضوية مصر في «الاتحاد المغاربي»، وهو أمر لقي قبولاً من بعض دول الاتحاد مع تحفظ من البعض الآخر، وماتت الفكرة، لأن الاتحاد المغاربي ذاته لا يتمتع بالحيوية التي يتمتع بها، على سبيل المثال، مجلس التعاون الخليجي، كما أن الصراع الجزائري - المغربي انعكس دائماً على هيكل ذلك الاتحاد وسياساته، ولكننا نلاحظ بين حين وآخر أن انتماء مصر إلى دول الجوار في شمال أفريقيا هو انتماء سكاني، إذ يكفي أن جزءاً كبيراً من السلوك الاجتماعي المصري مستمد من العصر الفاطمي الذي جاء مع تلك الدولة الشيعية التي قدمت من الشمال الأفريقي ومكثت قرنين من الزمان تحكم مصر بأفكارها الخاصة وأساليبها المختلفة، والذي يهمنا هو أن نرصد الدور المصري المتبادل مع دول الشمال الأفريقي، وهل مصر بالفعل هي قلب العالم العربي كما يقال؟ وهل مرجعية هذا التعبير جغرافية أم سياسية؟ تلك أمور نستعرضها في الملاحظات التالية:
أولاً: إن المصريين يتصورون أنهم يشكلون إقليماً متكاملاً في حد ذاته، ولذلك فإنهم نأوا بأنفسهم عن الأحلاف الفرعية أو التنظيمات الإقليمية. حتى عندما انضمت مصر في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك إلى مجلس التعاون العربي، فقد كان ذلك قراراً مرحلياً بمباركة شاملة من دول الخليج العربي، لمواجهة سياسات صدام حسين، بعد أن فرغ من حربه الطويلة مع إيران، وعندما شاركت مصر في شعار «وحدة وادي النيل» فإنها لم تكن تنظر إلى ذلك الشعار في اعتباره تعبيراً عن اتجاه سياسي، ولكن في اعتباره تعبيراً عن وحدة إقليمية ترتبط بالعلاقات المصرية السودانية وعمادها نهر النيل.
ثانياً: إن علاقات مصر مع دول المغرب العربي لا تكون على حساب علاقاتها الأخرى بأشقائها في المشرق العربي، إذ هي تدرك أن الانتماء العروبي لا يختلف بين المشرق والمغرب، وإن لم يكن المزاج واحداً ولا التاريخ الاجتماعي مشتركاً، كما أن الرابطة القومية تبقى في النهاية حبل الارتباط بين دول المجموعة العربية شرقاً وغرباً، وقد أدى ذلك إلى أن تتحول حرب التحرير الجزائرية، على سبيل المثال، إلى شعور قومي عام ساند الثورة حتى تحقق تحرير ذلك القطر العربي في الشمال الأفريقي، والقياس على ذلك في بقية القضايا العربية، خصوصاً المركزية منها وفي مقدمها القضية الفلسطينية وهي قضية العرب الأولى.
ثالثاً: كانت العروبة في مصر إلى عهد قريب عروبة ثقافية بل ودينية، ولم يكن هناك طرح سياسي للمفهوم القومي العربي إلى أن جاء عبد الناصر فأكسب العروبة زخماً سياسياً وجعل منها قضية حاكمة في كل قطر عربي، وقد يقول قائل إن مصر قد تحمست لمشروع إنشاء جامعة الدول العربية حتى تكلل جهدها بتوقيع النحاس باشا رئيس حكومة حزب «الوفد» على بروتوكول الإسكندرية، فقامت الجامعة بتنسيق مصري سعودي مع اختيار أمينها العام من مصر وهو أمر أضحى سابقة يعرفها الجميع، وقد نلاحظ أن العروبة المتجذرة في بلاد الشام تختلف عنها في مصر، حيث ارتبطت الحركة الوطنية المصرية بالتيار الإسلامي عموماً وربما عاشت بعض دول المغرب العربي الظروف ذاتها، ويكفي أن نتذكر أن ثورة الشعب الجزائري الباسل لتحرير ترابه الوطني كانت قائمة على تحويل الإسلام إلى قومية وليس مجرد ديانة، فالعروبة والإسلام يكتملان في بعض الأقطار العربية، ولكن قد يغلب أحدهما على الآخر.
رابعاً: لا بد أن نعترف هنا أن دول المغرب العربي حصلت على ميزة ثقافية كبيرة، نتيجة قربها من أوروبا على الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط، فضلاً عن العلاقات الوثيقة مع فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، وهو ما أدى إلى خلق مناخ ثقافي وبيئة اجتماعية تختلف عن المشرق العربي، كما أن شيوع اللغة الفرنسية، على سبيل المثال يبدو وكأنه نافذة جديدة على المجتمع الدولي المحيط بشعوب تلك الدول، وبدأت حركة التعريب في الجزائر غداة الاستقلال حتى أصبحت العربية على كل لسان، من دون رفض الثقافة الفرنسية ولا اللغة الأمازيغية، وبالمناسبة فإن سكان واحة سيوة في الصحراء الغربية المصرية يتحدثون الأمازيغية القديمة تأكيداً لقوة العلاقة بين دول الشريط الساحلي، ولا شك في أن تلك الميزة الثقافية لم تتمتع بها لا مصر ولا دول المشرق ولا دول الخليج العربي.
خامساً: ليس من شك في أن تنامي الثروة النفطية في دول الخليج بما فيها العراق، أدت إلى تنامي اقتصادات الريع والاعتماد في التصدير على سلعة واحدة، وهو أمر لم يقترب منه عرب أفريقيا عموماً، واضعين في الاعتبار أن ثلثي العرب يعيشون في القارة السمراء، وذلك يعني ببساطة أن التفاوت لم يأت بميزات ثقافية للجناح الغربي من الأمة العربية، ولكنه أعطى أيضاً ميزة اقتصادية لأبناء الخليج العربي والعراق، جعلت التفاوت في الثروة أحد مظاهر التباين بين الإقليمين الخليجي والمغاربي، فضلاً عن شيوع الثقافة الإنكليزية الأميركية في الجناح الشرقي للأمة العربية وشيوع الثقافة الفرنسية الأوروبية على الجناح الأيسر من الأمة العربية على شاطئ المتوسط في مواجهة دول أوروبا الجنوبية. فالأمر، والحال كذلك، يجعل اللغة العربية في النهاية هي الوسيط القومي بين أطراف الوطن العربي.
سادساً: إن الذين زرعوا إسرائيل في قلب العالم العربي كانوا على وعي تام بأنهم يطعنون العرب في مقتل ويجعلون إسرائيل دولة عازلة بين أقاليم الوطن العربي ويستهلكون جهدها الاقتصادي ومواردها الطبيعية والبشرية على المدى الطويل، فلا يجد العرب في النهاية إلا حصاد الهشيم، وهنا لا بد أن ندرك أن دول المغرب العربي لم تقف من الصراع العربي - الإسرائيلي موقفاً متفرجاً فقد قاتل الجزائريون والمغاربة على ضفتي قناة السويس عام 1973 جنباً إلى جنب مع القوات الأخرى من دول المشرق العربي والخليج، كما أن قضية القدس في اعتبارها قضية إسلامية وعربية قد استأثرت باهتمام كبير من جانب دول المغرب العربي حتى أن العاهل المغربي هو الرئيس التقليدي للجنة القدس المنبثقة عن القمة العربية، كما أن تونس استضافت القيادة الفلسطينية سنوات طويلة واستضافت أيضاً الجامعة العربية بعد تداعيات سياسات «كامب ديفيد» وتوقيع اتفاقية السلام المصرية - الإسرائيلية في أواخر سبعينات القرن الماضي. ولذلك فإننا نرى أن دول المغرب العربي لم تقف موقفاً سلبياً من الوجود الإسرائيلي في المنطقة، بل إننا نتذكر وصول الرئيس الجزائري هواري بومدين غداة هزيمة 1967 وهو يحمل شيكاً على بياض ليقدمه للرئيس المصري عبد الناصر لشراء الأسلحة من موسكو بأي ثمن، ولذلك تذكر مصر دائماً لدول المغرب العربي ذلك الرصيد الباقي من الشهامة العربية والعناد القومي إذا جاز التعبير، وهنا لا بد أن أشير إلى نقطة بالغة الحساسية وشديدة التعقيد في العلاقات المغاربية العربية عموماً، فالنزاع الجزائري - المغربي على أرض الصحراء الغربية يمثل عاملاً مقلقاً في علاقات الدولتين الجارتين العربيتين الأفريقيتين المسلمتين اللتين واجهتا ظروفاً تاريخية متشابهة ومؤثرات ثقافية واحدة، ولقد شعرت أحياناً أن التواصل مع إحدى الدولتين في شكل يزيد على المعدل المعتاد يؤدي إلى نفور لدى الدولة الأخرى تجاه الطرف الثالث، ونحن نتطلع إلى يوم يدرك فيه الجزائريون والمغاربة أن المشترك بينهما أكبر بكثير من الخلاف السياسي أو النزاع الإقليمي، عندئذ سوف يقوى الاتحاد المغاربي ويمتد دوره مؤثراً إيجابياً في المستوى العربي كله.
سابعاً: إذا ناقشنا هامش الديموقراطية بين جناحي الأمة العربية في المشرق والمغرب، فإن المغرب العربي سوف يكون في وضع أفضل، فإن كانت التجربة الكويتية تطلق إشعاعها المضيء من شاطئ الخليج، فإن التجربة التونسية مع ميلاد المجتمع المدني مبكراً ودور المرأة الرائد عربياً يبقى هو الآخر مركزاً مضيئاً على ساحل المتوسط يباهي به عرب شمال أفريقيا ويتذكرون دائماً زعيماً اسمه الحبيب بورقيبة الذي كان سابقاً عصره ورائداً في مجالات سياسية واجتماعية وثقافية ما زلنا نفتقدها حتى الآن.
إن دول المغرب العربي تمثل درراً في عقد التكامل القومي الذي نباهي به ونفاخر، لذلك فإن مصر تنظر إلى ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا نظرة تتسم بالشراكة أفريقياً والتكامل عربياً، وما زلت أتذكر أنني زرت موريتانيا للمرة الثانية منذ شهور عدة، ورأيت أن المركز الثقافي المصري ما زال موضع اهتمام ورعاية من الشعب الموريتاني المعروف بثقافته الواسعة والاهتمام بالمعرفة من مصادرها الأولى.
تحية إلى دول المغرب العربي نتذكرها كلما مررنا بأضرحة أولياء الله القادمين من المغرب في الإسكندرية وطنطا ودسوق وغيرها، كما نتذكر رواق المغاربة في تاريخ الأزهر الشريف، ونتذكر أيضاً أن الشيخ الخضر حسين، وهو تونسي من أصل جزائري، تولى مشيخة الأزهر بعد ثورة تموز (يوليو) 1952 اعترافاً بأممية الإسلام وبالعلاقات الوثيقة التي تربطنا بأشقائنا في المغرب العربي.
د. مصطفى الفقى;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 20 مارس 2017
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/844805/شباب/مصر-ودول-المغرب-العربي