طرح ابن خلدون في مقدمته طبيعة العلاقة بين العمران والبناء الحضاري عموماً على اعتبار أن السكان في النهاية هم سبب العمران وغايته وأيضاً هدفه ونهايته، وإذا نظرنا إلى الحضارات التي سادت ثم تلك التي بادت لوجدنا أن نظرية واحدة تحكم الصعود والهبوط وهي التي تقوم على فلسفة الإعمار والرغبة في البناء والقدرة على التشييد، ولم تتكون المدن باعتبارها قمة العمران إلا بعد استقرار الإنسان في مجتمعات متماسكة وخروجه من الصيد والرعي إلى الزراعة ثم الصناعة، وبالتالي فإن العمران مؤشر لنضوج الأمم ورقي الشعوب، ونحن ننظر إلى العمران نظرة لا تتوقف عند حدود البناء المادي أو ما نطلق عليه الآن البنية الأساسية، ولكننا نظن على الجانب الآخر أن هناك ما يجب اعتباره ذا أهمية قد تفوق ذلك كله، ولعلي أطرح بعض الأفكار والرؤى المتصلة بمفهوم العمران وميلاد الحضارات وأهمية ذلك في حياة العرب حالياً:
أولاً: إن الحديث عن العمران ونشوء المدن وازدهار الحضارات حديث ممتع لأنه يجمع بين العلوم النظرية والدراسات التطبيقية، يجمع بين التقدم الفكري والتفوق التقني، ونظرية العمران عموماً هي واحدة من اهتمامات فلاسفة التاريخ وعلماء الجغرافيا، والتساؤلات كثيرة لماذا ازدهرت الحضارة العباسية في بغداد في ظل درجة حرارة عالية كما ازدهرت في مناطق أخرى في شمال أوروبا وغربها في درجات حرارة متدنية؟ فلقد حاول البعض استخدام المناخ واختلاف الطقس ليربط بينها وبين العمران وهو أمر لم يتحقق بشكل حاسم يمكن الخروج منه بنظرية معينة، بل لقد قيل إن إصحاب المناخ المعتدل والطبيعة السهلة قد يخلدون إلى الراحة ويدمنون الكسل بسبب قلة التحديات وازدهار الواقع، لذلك فإنه لا يوجد ارتباط شرطي بين صعود الحضارات وازدهار المدائن وبين نظرية محددة لنوعية المناخ وطبيعة الطقس.
ثانياً: لقد تحدث بعض فلاسفة التاريخ وخبراء الجغرافيا عن ظهور المجتمعات المتقدمة في حوض الأنهار وحولها وتحدثوا عما سموه Cult of River في مواجهة المجتمعات الصحراوية القائمة على ثقافات مختلفة وسلوك متميز Cult of Desert، ولم تكن هذه النظرية بالضرورة صحيحة هي الأخرى فهناك حضارات ولدت بعيداً عن الأنهار بل وأخرى ازدهرت في واحات الصحراء. نعم إن المياه العذبة تشد المجتمعات بحيث تتركز حولها الجماعات البشرية ولكن ذلك لا يعني اقتصارها عليها، فالإنسان ابن مهنته رعياً أو صيداً أو زراعة أو صناعة ولكنه ليس حبيس إطار واحدة منها، ولقد برزت نظرية أخرى ترى أن سواحل البحار هي التي تتركز عليها المدن الكبرى والموانئ المعروفة وهذا قول صحيح جزئياً وإن كانت تلك النظرية قد بدأت تتراجع بعد اختراع الطائرة ونشاط حركة الطيران الدولية التي جعلت المدن في قلب الصحراء تتمتع بميزات لا تقل عن موانئ البحار في عصر سيادة السفن وسيطرة النقل البحري لعدة قرون، ومن يقارن بين مدينتين في دولة واحدة مثل القاهرة والإسكندرية في مصر فسوف يجد أن الأولى نموذج لعاصمة كبرى قامت عند التقاء النهر بدلتاه المحصورة بين فرعي دمياط ورشيد بينما الإسكندرية مدينة أكثر قدماً بل وكانت أكثر تحضراً في مراحل معينة من سيادة النقل البحري ونشاط الموانئ، وقد اختلف الأمر الآن بحكم التطور التكنولوجي في وسائل المواصلات وتراجع أهمية السفن أمام الطائرات التي تملأ فضاء العالم.
ثالثاً: قد يتوهم البعض أن أهمية الصحراء أقل من أهمية أحواض الأنهار ولكن الأمر اختلف الآن، فبالإضافة إلى أن الصحراء هي مستودع المعادن والكنوز فإنها أيضاً أصبحت ذات قيمة متزايدة تبدأ بسياحة الصحراء ولا تنتهي بالتطور الكاسح للإعمار في بقاع مختلفة منها، ولعل الجزيرة العربية بل منطقة الخليج عموماً خير نموذج لذلك، حيث أصبحنا أمام دول حققت درجات عالية من العمران وقطعت أشواطاً طويلة على طريق الحضارة المعاصرة والمدنية الحديثة وأصبحنا نرى في قلب الصحراء مجتمعات أكثر نمواً وازدهاراً- في كثير من الأحيان- عن مجتمعات ظهرت من قبل وتألقت لعدة قرون ثم بدأت تتراجع أهميتها ويقل دورها. إن دراسة العمران هي نوع من التزاوج بين التاريخ والجغرافيا وعلوم الاقتصاد والاجتماع والسكان.
رابعاً: إن الحكم الرشيد والقيادة الواعية هما القادران على زرع التقدم حتى في بطن الصحراء، فالإنسان هو سيد الطبيعة في النهاية والقادر على تغييرها. إن الهولنديين يشيرون إلى ردم مياه البحر وتحويلها إلى اليابسة بقولهم إن الله صنع العالم ولكن الهولنديين صنعوا بلدهم! فالإنسان المعاصر تحدى الطبيعة وغيّر مجرى الأنهار وأقام السدود وتمكن من تأكيد العامل البشري في نظرية العمران، ولذلك فإنني ممن يؤمنون بأن بناء العمران وصناعة الحضارات هما نتاج للعقل الإنساني وتفوقه الجاد في فترات معينة من حياة الأمم وتاريخ الشعوب.
خامساً: لا شك في أن العمران كيان معد ينتقل من مكان إلى آخر ولا تقف أمامه حواجز قومية ولا موانع بشرية، فالفكر الإنساني ملك للجميع والتفوق ظاهرة لا تقتصر على شعب بذاته أو دولة بعينها، لذلك فإن الأصل في الحضارات أنها تتفاعل وأن حركة العمران تتواصل ولا تقف عند حد بذاته ولكنها تأخذ وتعطي في شكل متبادل، لذلك فإن التفاعل والتواصل سمتان للحراك الحضاري والتقدم العمراني، وعلى سبيل المثال فإن التأثر والتأثير بين ضفتي المتوسط الأوروبية والأفريقية هو دليل على التداخل الثقافي نتيجة التقارب الجغرافي وعملية الانتقال في مظاهر الحياة وأشكال العمران وبعض سلوكيات البشر.
سادساً: إن العلاقة التبادلية بين الزمان والمكان والسكان تمثل أضلاع مثلث الحركات النهضوية والقفزات التكنولوجية، فإذا تأملنا عصر النهضة الأوروبي فسوف نكتشف أنه قام على دعائم من عنصري الزمان والمكان وتفاعلهما مع نوعية السكان، فالبشر في النهاية هم الفيصل الذي يحدد المسار ويفتح الأبواب نحو المستقبل، لذلك فإنني ممن يعتقدون أن العنصر البشري هو عنصر حاكم في مسار المجتمعات منذ فجر التاريخ. إن الزمان والمكان والسكان هي مرادفات لعلوم التاريخ والجغرافيا والاجتماع وهي التي تشكل المنظومة النهائية لحركة البشر في منطقة بذاتها. إننا ندرك مكانة الإنسان وقيمته ونعترف بأنه المتغير المستقل في حركة التطور، فالذين صنعوا عصر النهضة الأوروبية هم الفنانون والشعراء والعلماء والمفكرون الكبار. إنه العقل البشري صانع العمران وباني الحضارات.
سابعاً: دعنا نعترف أن الأديان السماوية هي ثورات اجتماعية من أجل تغيير مسار الحياة والاتجاه بها نحو الفضائل وإبعادها عن الرذائل، وهي تلتقي في هذا الأمر مع بعضها ربما بغير استثناء، ولكن المشكلة الحقيقية تولدت عن سوء فهم أتباع كل ديانة ما جاءت به فولدت حركات إرهابية سعت لتدمير التراث وترويع البشر وهدم العمران وتهديد الآمنين، فتأثرت بالضرورة حركة العمران وتراجعت بعض المظاهر الحضارية أمام أوهام الخرافة وخزعبلات من يكتبون عنها ويؤثرون فيها، وإذا نظرنا إلى منطقة الشرق الأوسط مهبط الديانات السماوية ومنطلق الأساطير الكبرى لوجدنا أن الديانات الإبراهيمية الثلاث تلتقي في مفهوم التوحيد والإيمان بالغيب ورفض المظاهر الوثنية التي سيطرت على البشرية لعقود طويلة.
ثامناً: لقد ظلت سيادة الدولة هي قدس الأقداس في نظم الحكم ودساتير الشعوب وهو أمر أعطى الحكومات المركزية حق تنظيم الإعمار وتحديد مجريات الأمور وتطورات الأحداث وكلما كانت الدولة أكثر مركزية يكون البناء أكثر إحكاماً وأشد سيطرة على معدلات النمو السكاني والتطور العمراني.
تاسعاً: يظل القانون الطبيعي مصدر إلهام لسياق حركة الطبيعة بينما يبقى القانون الوضعي هو منظم العلاقات بين البشر في كل المجالات والعلاقة بينهما- الطبيعي والوضعي- هي محرك العمران ومحددة مسار التطور الذي شهدته كل الحضارات في أنحاء المعمورة.
عاشراً: لقد شيد العرب صروحاً من العمران والمظاهر الحضارية في عصور ازدهارهم بل إن علوم القدماء انتقلت إلى اليونان والرومان من خلال علماء العرب بعد ذلك نتيجة الاحتكاك الحضاري والتواصل الفكري.
إننا إذ نكتب عن العرب بين العمران والسكان فإننا نريد أن ندق ناقوساً قوياً لتأكيد أهمية العنصر البشري في النسق الحضاري للأمم والشعوب لعلنا نصحو ذات يوم قريب!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة العدد
تاريخ النشر: 4 سبتمبر 2017
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/846533/شباب/العرب-بين-العمران-والسكان