عقد الصالون الثقافي العربي ندوة تحت عنوان «المتغيرات الثقافية العربية» وهو صالون أنشأه الدكتور قيس العزاوي منذ أكثر من عشر سنوات عندما كان مندوب العراق في جامعة الدول العربية، وترأس الصالون في سنواته الأولى نائب رئيس الوزراء المصري الأسبق الراحل الدكتور يحيى الجمل ثم آلت الرئاسة إلي بعد وفاته منذ شهور عدة. ويضم الصالون في مجلس إدارته نخبة من كبار المثقفين العرب، من بينهم، إلى جانب الدكتور قيس العزاوي المؤسس، رئيس وزراء مصر الأسبق الدكتور عصام شرف ووزير الثقافة المصري الأسبق الدكتور جابر عصفور وفنان العود العراقي الشهير نصير شمه بالإضافة إلى الدكتور صلاح فضل وسفير لبنان السابق في القاهرة المؤرخ والمفكر الدكتور خالد زيادة، والمفكر السياسي المصري نبيل عبدالفتاح والإعلامي الدولي محمد الخولي، فضلاً عن عدد من الشخصيات العربية المقيمة في القاهرة أو القادمة إليها، ويطرح الصالون في اجتماعه الدوري إحدى القضايا المهمة التي يدور حولها النقاش على أن يكون هناك متحدث رئيس في كل جلسة، وكان الناقد الأدبي الكبير والمفكر المصري المعروف الدكتور جابر عصفور هو المتحدث في الجلسة الأخيرة حول موضوع المتغيرات الثقافية العربية حيث طرح علينا عدداً من المحاور دار حولها نقاش جاد شارك فيه متحدثون من مختلف الأقطار العربية لأن القضية تمثل هماً مشتركاً يشعر به الجميع، فالثقافة هي عنصر حاكم في العلاقات الدولية المعاصرة فضلاً عن أنها تحدد سلوك الشعوب وتبرز شخصية الأمم، ولقد تزايد تأثير العامل الثقافي على الساحات الدولية والإقليمية والمحلية حتى رأى البعض أن تعريف القومية مستمد فقط من تأثير المشترك الثقافي بين مكونات أي أمة، وإذا تأملنا المجتمع الدولي المعاصر فسوف نلحظ بوضوح أن القضايا الرئيسة الثلاث فيه هي ذات طابع ثقافي في مجملها وأعني بذلك قضايا العولمة وصراع الحضارات ثم الحرب على الإرهاب، وسوف نكتشف دائماً أن العامل الثقافي يقبع في جوهر كل منها، من هنا تبدو أهمية ما كان مطروحاً على الصالون الثقافي العربي في جلسته الأخيرة بالقاهرة يوم 21 أيلول (سبتمبر)2017 ولقد بلورت وأنا أحضر هذه الندوة خمس نقاط رأيت أنها ذات صلة مباشرة بما تفضل به الدكتور جابر عصفور وهو واحد من أهم رواد الاستنارة العربية المعاصرين، وسوف أوجز ما كتبته تعليقاً على حديث عصفور والحوار معه في عدد من النقاط هي:
أولاً: أن المشكلة الحقيقية في النظم التعليمية العربية هي التعددية التي نشأت نتيجة الاختلاف بين التعليم الديني والتعليم المدني، ونحن لا ننكر أهمية كل منهما ولكن لنا ملاحظات حول أساليب التعليم الديني في العالم الإسلامي عموماً وبعض الدول الآسيوية والعربية خصوصاً، لأن تطويع الدراسات الدينية استعداداً لاتجاهات سياسية معينة هو أمر تعاني منه الأمة وتدفع ثمناً باهظاً له، وفي مصر –على سبيل المثال–، أعطى ظهور رفاعة رافع الطهطاوي وعلي مبارك وغيرهما دفعة قوية للتعليم العصري ولم تعد العملية التعليمية مقصورة على المدارس الدينية وحدها وإن بقيت (الكتاتيب) بداية طبيعية لمراحل التعليم المختلفة للمسلمين والمسيحيين على السواء، ولكن ظهور حركات الإسلام السياسي جعلت التعليم الديني متهماً –بحق أو بغير حق–، لأنه اعتبر مسؤولاً عن خلق بيئة حاضنة للتطرف والعنف، وربما الإرهاب أيضاً، والتعميم هنا غير جائز فهناك نماذج للتعليم الديني الصالح الذي أفرز شخصيات تؤمن بالاعتدال وتحترم وسطية الإسلام ولكننا وجدنا على الجانب الآخر أيضاً مجموعات تؤمن بالغلو والتشدد وتسعى نحو العنف والتطرف، ومن غير المعقول أن تكون هناك مدارس دينية وأخرى مدنية، ومدارس أجنبية وأخرى عربية، ومدارس خاصة وأخرى للعامة، فالأصل في التعليم أنه البوتقة التي تنصهر فيها روح الأمة وتتكامل معها شخصية الوطن، فإذا تعددت المسالك التعليمية فإن علينا أن نتوقع غياب الانصهار الاجتماعي وظهور قطاعات متناثرة من الشعب الواحد.
ثانياً: إن غياب الإطار القانوني والتطبيق الديموقراطي أدى هو الآخر بدوره إلى إحداث متغيرات ثقافية من نوع جديد لأنها تكرس فلسفة العنف والخروج على القواعد العامة ولا تسمح بوجود تأثير حقيقي للنهضة التعليمية على كل المستويات بل تسمح بوجود صراع بين الأجيال وتحيل التنافس الحميد إلى نوع من الصدام الخبيث، لذلك ظهرت تعبيرات (الحلال والحرام) لكي تكون بديلاً من عبارات (قانوني أو غير قانوني) فلقد مضى العرب في معظم أقطارهم والمسلمون في غالبية دولهم نحو استخدام فهمهم المغلوط للدين بديلاً من فهمهم الصحيح للحياة، وأصبح الإسلام المظلوم هو مصدر الاتهام الدائم بمبرر أو بغير مبرر، ولم يتحقق مشروع متكامل لتعليم عصري مقبول في ظل تلك الظروف المعقدة التي تختفي فيها العوامل القومية لكي تتصدر المظاهر الدينية فكان من الطبيعي أن يتأثر النظام التعليمي بذلك الازدواج بل وذلك التعدد الذي نعرفه في معظم أقطارنا.
ثالثاً: إن غياب دور العقل وشيوع الخرافة والاعتماد على التحليل الغيبي وتفضيل الأدلة النقلية على البراهين العقلية، كل ذلك أدى إلى تنحية التفكير السليم والرؤية الشاملة للتطور والإدراك الحقيقي للعلاقة بين المكونات المختلفة للحياة والأحياء، ونلاحظ هنا أن دور التعليم المدني المتقدم أصبح مرتبطاً بأبناء الطبقة القادرة عليه بحيث لم تعد التعددية التعليمية مشكلة تؤدي إلى تأكيد الصراع الطبقي وإشعال جذوره فحسب ولكنها تجاوزت ذلك إلى ما هو أكثر تعقيداً وأشد صعوبة حيث صنعت فجوة بين أبناء الوطن الواحد وزرعت نوعاً من الاختلاف الكامل بين الأطراف المعنية وضربت تماسك المجتمع في مقتل، ولعل أحداث السنوات الأخيرة تؤكد أن اختلاف مصادر التعليم أدى إلى أزمة شك متبادلة وثقة مفقودة في كثير من المجتمعات العربية والإسلامية.
رابعاً: يجب أن نعترف هنا صراحة بأن موقف السلطة الحاكمة لم يكن متوازناً في معظم الحالات، لأنها آثرت السلامة أمام المد القوي للتيارات الدينية على حساب بساطة الإسلام ودعمه المصلحة العامة وحرصه على تداول الرأي والرأي الآخر، وأنا أتهم صراحة بعض النظم العربية والإسلامية بمسؤوليتها عن سياسة الإعلام الذي ظل لسنوات طويلة ينافق السياسات. إنها النظم ذاتها التي نافقت التيارات الدينية شراءً لرضاها أو نكاية في حلفائها، وهي الدول التي أنفقت عشرات الملايين لتحقيق ما ذكره خبراء الدراسات الاجتماعية والعلوم السلوكية حول مسؤولية التعليم الذي يعتمد على الحقائق ويبتعد من الأوهام بل ويتحمل مسؤوليته كاملة في المستقبل بكل ما له وما عليه.
خامساً: إن هناك عاملاً آخر يسقط من حساباتنا عندما نتحدث عن تأثير التعليم بكل مدخلاته على طبيعة المجتمع بكل مخرجاته، فلقد أصبحنا أمام صنم صنعناه ثم بعد ذلك عبدناه، وذلك الصنم هو نتيجة التراكم التاريخي لغياب العقل وشيوع الخرافة وتحول المدرسة إلى مجرد مكان لملء استمارات الامتحان ولكنه لم يعد مكاناً ملائماً لتربية النشء والمضي بهم إلى ما يعلوه، ولعلنا نشير هنا أيضاً إلى عامل خفي ساعد على إحداث المتغيرات ولكن لم يتنبه إليه الكثيرون وأعني به تراجع التيارات اليسارية واختفاء الأفكار التقدمية نتيجة ما جرى في العالم عندما انهارت النظم الشيوعية وشاعت عملية إدانة واسعة للفكر الاشتراكي عموماً وهو الذي كان يمثل حائط صد أمام التنامي السريع للتيارات الدينية، وبذلك تم انسحاب معظم القوى الفاعلة في المجتمع وتركت الساحة أمام نظم التعليم التقليدي بكل ما جاءت به من نفاق للأفكار المتأسلمة مع المشاركة بالصمت في حملة تدعيم التعليم غير العصري.
هذه ملاحظات خمس أوردناها أثناء المحاضرة المهمة للمفكر العربي الدكتور جابر عصفور، ولقد تبعت مداخلتي محاولات واسعة أكدنا فيها أن ما جرى في العالم الإسلامي ليس بدعة جديدة، إذ إن المجتمعات الغربية المسيحية عرفت هي الأخرى الصراع بين السلطتين الدينية والزمنية كما عانت من نمط مشابه نتيجة التعددية في مصادر العملية التعليمية، رغم أنهم أدركوا في النهاية أهمية التواصل بين الحضارات والانفتاح على الثقافات كافة ومختلف الديانات، خصوصاً أننا نحن العرب لعبنا أدواراً تاريخية مشهودة في نقل العلوم الحديثة إلى أوروبا في عصر النهضة ولذلك فإن لنا جذوراً حقيقية ترتبط بالبحث العلمي والتعمق في الدراسة والتفوق في التحصيل.
إننا بصدد خطر داهم لن يتوقف عند المتغيرات الثقافية وحدها بل سوف يقطع الطريق على نهضة المجتمع واستقرار الشعب ورقي الأمة. دعنا نأمل للمتغيرات الثقافية في بلادنا أن تكون إيجابية واضعين في الاعتبار ثورة المعلومات والتقدم الكاسح في ذلك القطاع الذي ظهرت معه خلافات بين الأجيال وفوارق بين من يملكون المعرفة وبين من يدعون وجودها، فالمعرفة قوة والثقافة سلوك ولن تتحقق طموحاتنا إلا إذا تمكنا من إيجاد حد أدنى من المشترك الثقافي بين الوحدات المختلفة ولم نسمح بالفجوات الثقافية التي تسللت من خلالها عناصر التشدد باسم الدين والتي نجحت إلى حد كبير في تخريب عقل المسلم والعبث في وجدان العربي وفتح الأبواب على مصراعيها أمام الغزو الثقافي الأجنبي.
د. مصطفى الفقى;
جريدة الحياة
تاريخ النشر: 2 أكتوبر 2017
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/846798/شباب/المتغيرات-الثقافية-في-الوطن-العربي