تقاس قيمة الأمم ومكانة الشعوب بدرجة استمرار وجودها وتواصل دورها، والعرب– أمة وشعوباً– قد عرفوا أنماطاً مختلفة من الوجود على أرضهم كما تحددت الكيانات السياسية فوقها طبقاً لحالات الاندماج والاحتواء أو حالات التجزئة والانقسام، ويهمنا أن نستعرض في السطور التالية لماذا هم كذلك وما هي المعايير الثقافية التي حكمت قضية العروبة في معظم مراحلها؟ وهل ما زالت قوة الدفع القومية مصدراً للتماسك ومبعثاً للانصهار أم أن العوامل الدولية غيرت معالم المشهد ودفعت بعض الوحدات السياسية العربية في اتجاه مختلف؟
إنني أتذكر هذه الأيام مرور أكثر من مئة عام على «سايكس بيكو»، ومئة عام بالتمام على وعد من لا يملك لمن لا يستحق وأعني به «وعد بلفور» الذي وعد فيه وزير خارجية بريطانيا اليهود بوطن قومي في فلسطين. هذه مشاهد تتراءى أمام الباحث عندما يقلب في أحداث الماضي القريب والبعيد معاً، إذ يصبح تحليل هذه الوقائع أمراً يحتاج إلى مقدار كبير من التجرد والموضوعية بل والخروج أيضاً من شرنقة المشاعر الضاغطة، لذلك فإنني أستأذن القارئ في تأمل الملاحظات العشر التالية:
أولاً: يجب أن نعترف أن المكون العروبي في غرب آسيا وشمال إفريقيا قد تشكل بانتشار الإسلام من الجزيرة العربية إلى امتدادات المنطقة في الشام والعراق ومصر، لذلك فإننا ندرك أن الإسلام هو الذي حمل العروبة إلى البقاع التي ارتبطت بها وأصبحت ثقافياً – على الأقل – جزءاً منها، ولذلك فإننا نقول دائماً إن معظم الدول الناطقة بالعربية يدين غالبية سكانها بالإسلام ولكن الدول الإسلامية في العالم كله ليست بالضرورة عربية، ولقد لعبت الثقافة الإسلامية دوراً مؤثراً في تجانس المنطقة العربية وتواصل ارتباطها من دون انقطاع.
ثانياً: يجب أن نفرق هنا بين حضارات قديمة قبلت الديانة الإسلامية والثقافة العربية في الوقت ذاته بينما أمم أخرى قبلت الدين وتحفظت على الثقافة وصارت مرتبطة بلغتها الأصلية وثقافتها التاريخية، لذلك فإننا نقول أحياناً إن معظم العرب مسلمون، ولكن ليس معظم المسلمين عرباً ومع ذلك أسهمت وحدة الثقافة العربية في تشكيل الوجدان المشترك الذي صنع مفهوم الأمة وصاغ جوهر القومية، لذلك أصبح طبيعياً أن نقول إن تواصل الوجود البشري بثقافته الحالية في المنطقة العربية قد ارتبط بالعوامل التاريخية والتركيبة السكانية التي أدت إلى ما نراه من مشهد امتد لعشرات القرون من خلال كيانات سياسية خضعت كلها للمشترك الثقافي والتأثير الديني.
ثالثاً: لقد قال أمير الشعراء أحمد شوقي: (عز الشرق أوله دمشق)، وذلك للتدليل على قيام الدولة الإسلامية الكبرى على يد بني أمية في الشام ثم سيطرت بني العباس على الدولة الإسلامية الثانية في العراق حتى امتد تأثير التواصل الإسلامي في الحكم من خلال الدولة الفاطمية في مصر التي وفدت إليها من شمال أفريقيا، والواقع أن الدولة الإسلامية الكبرى لعبت دوراً أساسياً في تماسك كيانات المنطقة ذلك أن الوحدة الثقافية هي التي تعيش وتستمر حتى لو زالت المؤثرات الروحية والمكونات الدينية، لذلك فإن الأمويين والعباسيين والفاطميين قد لعبوا هم وغيرهم ممن توافد على المنطقة من أنواع الحكم تحت عمامة الإسلام هي في مجملها تأكيد لمعنى التواصل بين دول المنطقة العربية، لعبوا دوراً أساسياً في تشكيل شخصية العرب والعروبة.
رابعاً: إن الدولة العثمانية هي نمط خاص من أنماط السيطرة على المنطقة امتداداً من أواسط آسيا إلى أطراف البلقان ومن الأصقاع الشمالية على حدود روسيا وصولاً إلى منابع النيل جنوباً. إن هذه الدولة التي قامت على الفتوحات وسيطرت باسم الدين وفرضت نمطاً خاصاً في الحكم لقرون عدة تبدو هي الأخرى مسؤولة عن حالة الانصهار والتجانس التي سادت أنحاء الإمبراطورية العثمانية رغم اختلاف المكونات التي شاركت فيها، ولعلنا نقرر الآن أن الحكم العثماني رغم قسوته وضراوته إلا أنه كان الأشمل في تاريخ الخلافة الإسلامية، إذ كان هناك معنى لإحكام السيطرة من خلال القبضة العثمانية حيث تفنن الخلفاء العثمانيون في دروب القسوة ومظاهر العنف حتى بدأت تركة (الرجل المريض) في التفكك بما أدى إلى انهيار آخر أنماط الخلافة الإسلامية وهو النمط العثماني.
خامساً: لقد تفتحت شهية الغرب لمنطقة الشرق الإسلامي مع نهايات الحرب العالمية الأولى وظهور تيارات تقليدية تدعو إلى وراثة الوجود العثماني في المنطقة وتفتيتها بسيطرة بريطانيا وفرنسا تحديداً على أجزاء منها تمهيداً لتصفية التركة العثمانية وهو ما حدث بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة، حيث أخلف الحلفاء وعدهم للعرب بالاستقلال الذي تمنوه والحرية التي رغبوا فيها وخذلوا الشريف حسين ونكصوا فيما اتفقوا عليه معه، ولكن العقل الغربي كان مركزاً فقط على منطقة تبدو واعدة بثراء مواردها الطبيعية حتى تعزز ذلك التدخل الأجنبي بظهور النفط في الجزيرة والخليج حيث ظهرت الأطماع الغربية في المنطقة العربية في شكل سافر، وأصبحنا أمام مواجهة ارتبطت بتغيرات كبيرة في المنطقة تمهيداً للتغلغل الاستعماري بجوانبه السياسية والاقتصادية والثقافية، ومنذ ذلك الحين وقد بدأنا فصلاً جديداً من العلاقات العربية الغربية يقوم على النضال من أجل الاستقلال وطلب الدساتير العصرية والسعي نحو الحريات العامة التي كفلتها روح العصر.
سادساً: إن من العوامل المؤثرة في عمليات الانقطاع وظهور فجوة بين الماضي والمستقبل تلك التي تكمن أساساً في حالة الازدواج التي أصابت المنطقة العربية نتيجة الصدام بين الماضي والحاضر أو بين الأصالة والحداثة، فنحن ندرك أن هناك صدمة حضارية أصابت الشرق العربي والإسلامي نتيجة الاحتكاك بالغرب والإحساس بالذاتية والتفرد والرغبة في الاختلاف برفض كثير من المستجدات الوافدة من ذلك العالم المختلف حتى ولو كان متقدماً، فلقد ساد إحساس بالاغتراب أمام تقنيات الغرب وأفكاره وممارساته، وكان الدين عاملاً في تجسيد ذلك، فالغرب الذي يمضي في سياسة ازدواج المعايير هو ذاته الذي أدى إلى تكريس تلك السياسة، من دون أن يشعر، فبرزت دوافع الهجرة بنوعيها الزماني والمكاني حيث مضى مئات آلاف من الشباب العربي يزحفون نحو منابع الفتنة في الغرب رغم أنهم يستهجنون بشدة القيم الجديدة التي طرحتها المجتمعات هناك بما يعزز من ثقافة الاختلاف والشعور الذاتي بالتميز عن الغير.
سابعاً: إن وصول الحملة الفرنسية إلى مصر والشام إيذاناً بقدوم إرهاصات التنوير وميلاد الدولة الوطنية الحديثة التي سعى محمد علي إلى إنشائها وتثيبت أركانها معتمداً على العسكرية المصرية في جانب والقوى المصرية الناعمة في جانب آخر، حتى تيسر له أن يدفع إلى الوجود بدولة عصرية حديثة نشرت من حولها الضياء في غرب آسيا وشمال أفريقيا وحوض نهر النيل.
ثامناً: إن ميلاد الدولة الوطنية وظهور المقاومة ضد الأتراك والسيطرة الغربية في آن واحد، قد جعل مطلب الاستقلال والدستور مطلباً حيوياً في تشكيل طبيعة العلاقة بين مصر وغيرها من دول العالم، بل أدى الأمر إلى محاولة استقطاب دول أخرى في المنطقة لديها من الاستعداد ما لمصر من قدرات على المواءمة والانخراط في سلك الحداثة تمشياً مع روح العصر واستجابة لنداء التطور وقد حظيت دول هذا شأنها بمقدار كبير من الصدقية ومضت على الطريق الصحيح أو الذي يبدو كذلك.
تاسعاً: لقد عاش العرب أحداث الحربين العالميتين في القرن العشرين وتأثرت أحوالهم بها فخسروا بسبب بعضها، بينما نجحوا في تحقيق جزء من أهدافهم أيضاً، ولعل الخديعة الكبرى التي تجرعها العرب في نهاية الحرب العالمية الثانية وحال الإحباط التي أصابتهم من انهيار أحلام الشريف حسين وصولاً إلى سقوط الخلافة الإسلامية، كل ذلك غرس شعوراً عميقاً لدى المواطن العربي العادي بأن هناك من يترصده خصوصاً مع تصاعد حدة الوجود اليهودي في فلسطين والثورات العربية ضد المخطط المشؤوم الذي تبناه وزير خارجية بريطانيا في وعده الشهير يوم 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1917.
عاشراً: الحركات القومية التي عرفها المشرق العربي بدءاً من البعث العربي الاشتراكي، مروراً بعبدالناصر في مصر وحركة القوميين العرب ثم الوحدويين الاشتراكيين، كل هذه النماذج أحدثت حراكاً في الجسد العربي وأيقظته من سبات القرون، خصوصاً أنها ارتبطت بحركة التحرر العالمي وتصفية الاستعمار حتى تطلعت الولايات المتحدة الأميركية إلى المنطقة بشغف واهتمام، وهي تقوم بعملية استقبال تاريخية للنفط العربي الذي كان سلعة استراتيجية أولى طوال القرن العشرين.
إن هذه الملاحظات العشر تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك في أن هناك خيطاً مشتركاً بين الحقبات العربية المتتالية على نحو يؤكد التواصل بينها، كما لا ينكر في الوقت ذاته حدوث حالات من الانقطاع اعتمدت على الاغتراب التاريخي والجغرافي حتى أدرك العرب– خصوصاً أجيالهم الجديدة– أن المواطن العربي هو مواطن عالمي في الوقت ذاته يتفاعل مع عالمه، ويعيش حياة عصره ويتأرجح بين التواصل والانقطاع مع عوامل الزمان والمكان والسكان.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة العدد
تاريخ النشر: 16 اكتوبر 2017
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/846939/شباب/العرب-بين-التواصل-والانقطاع