تتفاوت أدوار الأحزاب السياسية في الدول العربية- خصوصاً تلك الدول التي عرفت أنماطاً من الديموقراطية وأشكالاً من المشاركة السياسية- وفقاً لطبيعة كل قُطر ودور النخبة السياسية فيه. وإذا تأملنا خريطة الوطن العربي فسوف نكتشف أن الأحزاب السياسية نوعان، نوع وطني محلي لا يتجاوز حدود بلاده ونوع آخر قومي إقليمي تمتد آثاره وتنتشر أفكاره. ومن النوع الأول نستطيع أن نميز بعض الأحزاب المحلية التي نختار لها مثالاً «الحزب الحر الدستوري» الذي أنشأه الحبيب بورقيبة في تونس و «حزب الوفد» في مصر الذي قاده سعد زغلول ومصطفى النحاس، بينما نرى على الجانب الآخر أحزاباً ذات بُعد قومي يتجاوز الحدود وينتشر أحياناً كالنار في الهشيم، ويكفي أن نتذكر في هذا المقام «حزب البعث العربي الاشتراكي» الذي امتد من إطاره القطري إلى مضمونه القومي، بل إنه تولى السلطة في قطرين عربيين كبيرين هما سورية والعراق، كما ترك آثاره في الأردن ولبنان بل وأيضاً في اليمن والسودان. وقد رفع البعثيون شعارات حزبية صاخبة تدور حول المثلث البراق في السياسة القومية، فهم الذين قالوا «حرية، اشتراكية، واحدة»، وهم أيضاً الذين قالوا «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة». وفي ظني أن هناك حركتين كبيرتين في التاريخ الحديث للعالم العربي كان لهما أثر كبير في تشكيل الأوضاع الراهنة، كما كان لهما أيضاً دور كبير في استقطاب الجماهير والقيام بعملية حشد ثوري في عدد من الأقطار العربية. ولو لم يحدث الصدام بين البعث وعبدالناصر، وهو صدام كان من نتائجه انتهاء دولة الوحدة وانهيار الجمهورية العربية المتحدة، لو أن ذلك لم يحدث وجرى العكس بحيث اندمجت الحركتان، لكان الأمر مختلفاً والصورة غير التي نراها تماماً، ولو بحثنا في النشوء المبكر لــ «حزب البعث العربي الاشتراكي» منذ ميلاده في أوائل أربعينات القرن الماضي على يد زكي الأرسوزي بدعم من فيلسوف الحزب ميشيل عفلق، وفي الدور السياسي الكبير الذي لعبه صلاح البيطار، لوجدنا أن حزب البعث كان حزباً قوياً في نشأته، حصيناً في مسيرته، خصوصاً أن مؤسسيه فطنوا مبكراً لأهمية وجود جناح عسكري للحزب، فأدخلوا كوادرهم الشابة إلى الكليات العسكرية في مخطط واضح للقفز على السلطة في قطرين عربيين كبيرين هما سورية والعراق. وقد ظهر الخلاف بينهما والصدام الذي حصل بين الجناحين القطريين للحزب في كل من دمشق وبغداد، وكانت له آثاره السلبية في المسيرة السياسية للحزب خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ولولا ذلك لكان الوضع أيضاً مختلفاً. أما إذا نظرنا إلى الحركة الناصرية فهي حركة حكومية وليست حزبية، وقد اعتمدت على المؤسسات والأجهزة، لكن كاريزما عبدالناصر شدّت الأبصار وفرضت نفسها لأكثر من عقدين على الساحة العربية من الخليج إلى المحيط. وقد استفاد عبدالناصر من ارتباط توقيت ظهوره بحركة تصفية الاستعمار والمدّ القومي والتحرّر الوطني الذي ارتبط بتلك الفترة وأسّس لدورها المهم وتأثيرها القوي حتى انقسم العالم العربي بين من نسميهم قوى تقدمية وأُخرى رجعية، فكان الصدام قوياً بين الأنظمة الملكية والأخرى الجمهورية، إلى أن جاءت نكسة عام 1967 لتضرب المشروع الناصري في مقتل، حتى تحوّل المشهد برمّته إلى اختلاف واضح عن الشعارات المطروحة، فأصبحنا أمام عالم عربي مختلف بكل المعايير. وإلى جانب هاتين الحركتين الكبيرتين (البعث والناصرية)، ظهرت على الهامش- وانطلاقاً من القضية الفلسطينية ودروبها المعقدة– حركات أخرى هامشية، نتذكر منها «حركة القوميين العرب» و»الوحدويين الاشتراكيين»، وهي حركات لم تدم طويلاً وإن كانت قد استقطبت بعض العناصر التي انخرطت بعد ذلك في صفوف المقاومة الفلسطينية. وإذا عدنا إلى الأحزاب القُطرية، فإننا نؤكد أن «الحزب الحر الدستوري» كان نمطاً خاصاً لارتباطه بالقيادة الفريدة للحبيب بورقيبة بفكره التقدمي، خصوصاً على الصعيد الاجتماعي والالتزام الواضح بالعمل في إطار الدولة التونسية من دون تطلعات خارج حدود البلاد. وربما كان حزب الدعوة في العراق أخيراً بصبغته الدينية الشيعية، مرجعية حزبية للقوى التي قاومت صدام ولعبت دوراً على المسرح السياسي للعراق، وما زالت تمارسه حتى بعد أن انتهت من توصيل صدام إلى حبل المشنقة في صباح عيد الأضحى منذ سنوات. أما أحزاب لبنان فحدّث ولا حرج، لأنها تعتمد على ميليشيات مسلحة وتتميز بالارتباط الطائفي، وقد تبلور جزء كبير من شخصيتها الحزبية أثناء الحرب الأهلية اللبنانية التي امتدت حوالى خمسة عشر عاماً، ولعلنا نطرح هنا– إزاء تنظيمات الأحزاب السياسية في الوطن العربي– النقاط التالية:
أولاً: إن الحزب السياسي كما كتب فيه فقهاء القانون الدستوري يقوم على جماعة من البشر ترتبط بفكر مشترك وعقيدة واحدة ويعملون معاً من أجل الوصول إلى السلطة، لأنه إذا لم يكن ذلك هدفهم فهم أقرب إلى الجمعية التعاونية أو إحدى منظمات المجتمع المدني، إذ إن هدف الوصول إلى الحكم هو التعبير المتميز لتحديد الصفة الحزبية للتجمع القائم، وقد ألحّ على هذه النقطة بعض فقهاء القانون الدستوري، وعلى رأسهم الفرنسي موريس دوفرجيه.
ثانياً: إن الإطار القومي للأحزاب السياسية العربية قد أفادها وأضرها في الوقت ذاته، أفادها لأنه أعطاها ذيوعاً جماهيرياً كاسحاً على امتداد الفضاء العربي كله فأصبح بعضها عابراً للحدود ومخترقاً للأوطان، لكن هذا الإطار القومي أضرّها أيضاً لأن تلك الأحزاب القومية ظهرت أمام شعوبها، كما لو كانت حركات ديماغوجية لا تعبر عن شعوبها قدر تعبيرها عن مشاعر الأمة كلها، أي أن الطابع القومي عندما يتغلب على الطابع القطري فإنه يثير انتقادات صامتة لا يمكن إغفالها.
ثالثاً: إن بعض جبهات النضال الوطني ذات البعد القومي مثل حزب جبهة التحرير الجزائرية أو حتى حركتي «فتح» و «حماس» إنما تبدو أحزاباً سياسية مرتبطة بهدف محدد في فترة زمنية بعينها، فإذا كان الوفديون قد طرحوا في مصر- بعد ثورة عام 1919- شعار (الاستقلال التام أو الموت الزؤام)، فإن الفلسطينيين قد ردّدوا أمام الاحتلال الصهيوني شعاراً آخر حول تحرير أرضهم قائلين «من النهر إلى البحر»، كما أن حركة النضال الجزائري ضد فرنسا أصبحت معروفة بأنها الحرب الشريفة التي فقد فيها الجزائريون أكثر من مليون ونصف مليون شهيد.
رابعاً: إن مفهوم الحزب السياسي في العالم العربي لم ينضج بعد. ففي مصر– على سبيل المثال– تبدو الأحزاب السياسية ضعيفة وليس لها جذور راسخة باستثناء حزب الوفد من عام 1919 إلى عام 1952. وما زلت أتذكر أن زملاء الدراسة في جامعة القاهرة من الطلاب العرب أثناء ستينات القرن الماضي كانوا يقولون لنا: «إن لديكم حزبين سياسيين فقط، هما حزب الأهلي وحزب الزمالك»، في تندّر واضح على ضعف البناء الحزبي سياسياً وتحلق المصريين حول السلطة التنفيذية، لأنهم أبناء واحدة من أقدم النظم المركزية في العالم، حيث الدولة التي بدأت بتنظيم مياه الري والاهتمام بالزراعة، فتعوّد المواطن المصري على التعامل مع الجهاز التنفيذي والإداري، بينما لا يتحمس للانضمام إلى التنظيم الحزبي والجهاز السياسي.
خامساً: إن الأحزاب العربية هي أحزاب تلتف حول رموز وشخصيات أكثر من اهتمامها بالمبادئ السياسية أو البرامج الحزبية، ولذلك أصبحنا نراها، وقد اختزلت وجودها في صحيفة للحزب وصورة لزعيمه، ولم تعد تعبيراً طبيعياً عن الجماهير في القاعدة، بل أصبحت فقط لهاثاً نحو القمة. وتلك خاصية عربية لا تجعل للحزب السياسي مفهومه الدولي الذي عرفه غيرنا، فضلاً عن أن ذلك يؤدي إلى أنه باختفاء الأشخاص قد تختفي الشعارات وربما يتهاوى الحزب برمته.
سادساً: إن المهمة الحقيقية للحزب السياسي هي تربية الكوادر السياسية، وهو أمر لا نجد له وجوداً في حياتنا على نحو أدى إلى فقر الحياة السياسية من الكوادر وضعف القيادات عموماً. في مصر على سبيل المثال، فإن الأحزاب السياسية– وبسبب ضعفها– لم تتمكن من إفراز قيادات جديدة أو تقديم كوادر للحياة العامة. وقس على ذلك عشرات الحالات في عدد من الدول العربية التي تعاني من نقص الكوادر السياسية، بينما الأصل في الأحزاب أنها مدارس لتخريج شخصيات حزبية تتمكن من تصعيدها إلى الصدارة وتسليمها مقاليد القيادة في مجتمع سياسي صحي.
سابعاً: إن التعود على أساليب الحوار السياسي واحترام آداب الاختلاف والتوقف عن تسفيه آراء الآخرين ومواقفهم، هي في مجملها أرضية مطلوبة للحياة السياسية السليمة، ولا يمكن أبداً أن نتصور أن الضجيج والصياح والتراشق بالكلمات وتبادل الاتهامات، تمثل مناخاً صحياً لحياة حزبية صحيحة.
هذا طواف سريع في موضوع حاكم في حياتنا السياسية العربية لأن الديموقراطية تقوم على الأحزاب، إذ إن غيابها يعني ضعف البناء وتهاوي القيم الفكرية التي تستند إليها الحياة السياسية في أي دولة، ولا يمكن أن يكون هناك حديث عن برلمانات عصرية ومجالس نيابية حديثة، بينما الأحزاب السياسية متهاوية وضعيفة وغير مؤثرة. هذا ما طاف بخاطري وأنا أتأمل النظم السياسية العربية، فلا أبدو مستريحاً ولكن أتحوّل مواطناً قلقاً في أمة تتعثر خطواتها على طريق الديموقراطية.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة العدد
تاريخ النشر: 13 نوفمبر 2017
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/847222/شباب/الأحزاب-السياسية-في-الوطن-العربي