لا بد أن نعترف أن إيران الثورة الإسلامية قد ملأت الدنيا وشغلت الناس وأحدثت قلقاً شديداً على المستويين الدولي والإقليمي وأثارت سياساتها الكثير من التساؤلات كما أدت مواقفها إلى العديد من الاستفسارات، وقد تغير المشهد في المنطقة بالكامل وهي الممتدة من غرب آسيا إلى المشرق العربي ثم إلى الخليج والجزيرة بل وتجاوزت ذلك إلى آثار أخرى في آسيا وأفريقيا وأوروبا، ومنذ سقوط حكم الشاه في إيران عام 1979 ونحن نشهد تطورات تدل على أن هناك توجهاً فارسياً يسعى لاحتواء بعض الدول العربية ويخلق من المشكلات ما يجعل الحلول صعبة والأمور معقدة.
فلقد أطلت إيران الجديدة على العالمين العربي والإسلامي بعباءات الملالي وعمائم آيات الله ودست أنفها في الشؤون الداخلية لمعظم دول المنطقة فهي العراب الكبير لـ «حزب الله» في لبنان، وهي الظهير القوي لنظام الرئيس الأسد في سورية، وهي داعمة الحوثيين في اليمن وهي التي تستثمر الظروف الداخلية والنزاعات الخارجية في الدول العربية للتهيئة لوسائل السيطرة وأساليب التسلل، فلم تقنع بالثلث المعطل في لبنان بل زادت عليه محاولات خلط الأوراق والسعي إلى تصفية الحسابات ثم أصاب الخطاب السياسي الإيراني نغمة استعلاء، ويكفي أن نتذكر المقولة الاستفزازية يوم سقوط صنعاء في يد الحوثيين وكيف أعلنت طهران أن العاصمة العربية الرابعة قد سقطت في أيديهم بعد بغداد ودمشق وبيروت! وتلك دائماً هي إيران التي تعمد إلى الأساليب الملتوية والتصريحات المستفزة في محاولة للتأثير النفسي في العرب وتحطيم معنوياتهم، وقد يكون من المناسب أن نرصد الدور الإيراني ومراحله المختلفة من خلال النقاط التالية:
أولاً: عندما عاد الإمام الخميني من منفاه في باريس بالطائرة إلى مطار مهرآباد في طهران يتردد أنه قد قال أثناء الرحلة: لقد قاد العرب الأمة الإسلامية منذ فجر الدعوة لقرون عدة ثم تلاهم الأتراك لقرون عدة أخرى وقد جاء الآن دور الفرس لقيادة هذه الأمة، ويستند رواة هذا الحديث إلى رغبة إيران الثورة الإسلامية في إحكام السيطرة على دول العالم الإسلامي، بدءاً من منطقة الخليج، مرتدية قناعاً لا يمكن تجاهله وهو قناع الثورة الإسلامية في محاولة للضرب على الوتر الحساس وهو الشعور الدائم لدى المسلمين بالاضطهاد واستقواء الغرب، خصوصاً أن قيام دولة إسرائيل قد جاء تعزيزاً لهذا الشعور وتأكيداً للرغبة المتأصلة لدى الغرب في إخضاع الشرق المسلم وإذلاله، ولقد استخدم الإيرانيون ذلك أفضل استخدام وهم أصحاب الوصف المشهور عن الولايات المتحدة الأميركية بتسميتها «الشيطان الأكبر» ودمغها دائماً بصفة «التجبر»، وقد كانت أحداث الشهور الأولى بعد الثورة الإيرانية كاشفة حال التوتر التي سوف تسود المنطقة بعد اندلاع ثورة الخميني حيث جرى احتجاز عدد كبير من الأميركيين في مبنى السفارة لمدة وصلت إلى 444 يوماً، وكان ذلك في حد ذاته إيذاناً بتدشين العداء لإيران ما بعد الشاه في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية وسياساتها في المنطقة، وما هي إلا فترة وجيزة بعد ذلك إلا واندلعت الحرب (العراقية– الإيرانية) التي استمرت قرابة ثماني سنوات استهلكت فيها الدولتان إمكاناتهما العسكرية والاقتصادية في شكل ملحوظ، ولقد دعمت الدول العربية في الخليج وفي مصر الموقف العراقي بل إن الرئيس الراحل السادات على رغم كراهيته للرئيس العراقي صدام حسين إلا أنه أمد جيشه بالسلاح عداءً لإيران وربما انتقاماً للشاه الذي استضافته مصر ودفن في أرضها حيث أن سورية حافظ الأسد كانت داعمة لإيران لأسباب تتصل بالخلاف الحزبي بين جناحي «البعث» في دمشق وبغداد.
ثانياً: لقد ظل احتلال إيران للجزر الإماراتية الثلاث ورفضها التفاهم حولها أو التفاوض في شأنها بمثابة دليل دامغ على سياسات إيران العدوانية ورغبتها المكتومة في السيطرة على الخليج الذي ترفض تسميته بغير عبارة الفارسي، وقد كشفت إيران الأقنعة المستترة لطموحاتها التي تخضع لأجندة توسعية تسعى من خلالها إلى الاستحواذ على المنطقة بأسرها، ولا شك أن أقنعة السيطرة كانت تسقط أحياناً كاشفة الوجه الفارسي للصراع القومي مع العرب مستتراً بالاختلاف المذهبي بين الشيعة وأهل السنة.
ثالثاً: لقد حظيت مملكة البحرين بنصيب وافر من الضغوط الإيرانية والتدخلات في شأنها الداخلي وتأليب الشيعة العرب على أشقائهم السنة داخل تلك المملكة الخليجية المسالمة، ولقد عرفت شوارع المنامة وغيرها من أجزاء المملكة ألوان الصراع والاضطرابات التي لم تكن معهودة من قبل، كأن يقال لهم إن العرش البحريني في توارث سني المذهب بينما قد يكون الشيعة هم نصف السكان أو أكثر وهكذا اضطرت إيران دولة مثل البحرين إلى الدفاع المستمر عن سلامة أراضيها واستقرار شعبها، وما أكثر التهديدات الإيرانية الصريحة الداعية إلى ابتلاع البحرين والادعاء بحقوق تاريخية فيها بينما الواقع يقول بغير ذلك تماماً، إذ لا يخفى علينا أن العرب الشيعة يسبقون في تشيعهم شيعة إيران بقرون عدة وبالتالي فليس من حق طهران الوصاية عليهم أو التحدث باسمهم أو الزج بهم في صراعات تسعي بها إيران لتحقيق طموحاتها السياسية وتنفيذ أجندتها الاستراتيجية.
رابعاً: لم يقف التدخل الإيراني عند هذا الحد بل تجاوزته إلى العبث في الشأن الداخلي لأكبر دولة خليجية وهي المملكة العربية السعودية، بحيث يوجد في شرق المملكة سكان من الشيعة العرب، فإن إيران قد سعت إلى تحريكهم ضد شرعية الدولة وعمدت إلى إذكاء الخلاف المذهبي بين الأشقاء داخل البلد الواحد، بينما الأمر في حسابنا أنه لا يوجد خلاف مذهبي حاد إنما يقف الأمر عند حدود الاختلافات التاريخية في تفسير بعض المواقف فيما يتصل بخلافتي أبي بكر وعمر ودور أم المؤمنين السيدة عائشة، رضي الله عنهم جميعاً، إذ لا يمكن أن نتصور أن يكون الإله واحداً يشترك في عبادته من كان نبيهم محمداً، صلى الله عليه وسلم، وكانت قبلتهم الكعبة وأركان دينهم واحدة وقرآنهم واحداً فلا يبدو الخلاف بعد كل ذلك المشترك إلا خلافاً مصطنعاً بسبب أحداث تاريخية وليس بسبب نصوص دينية، ولقد اتخذت المملكة العربية السعودية إجراءات صارمة في المنطقة الشرقية لوأد الفتنة وتعزيز مظاهر الوحدة.
خامساً: لقد استخدمت إيران نغمة الخلاف المذهبي لإشعال الفتن وخلق المبررات للسيطرة والاستحواذ، ويكفي ما فعلته في العراق بعد سقوط صدام حسين ومحاولتها السيطرة على مقدرات السياسة العراقية وزيادة النفوذ الإيراني في جنوب العراق ووسطه أيضاً حتى لم يعد العراقيون الشيعة أنفسهم يقبلون تلك الوصاية الإيرانية، بل وقد ارتفعت أصوات عربية شيعية في العراق ترفض الهيمنة الإيرانية وترى في ما تفعل عدواناً على استقلال العراق وسيادته وتنظر بحذر إلى تزايد النفوذ الإيراني في «أرض الرافدين».
سادساً: لقد سيطر موضوع الملف النووي الإيراني على منطقة الشرق الأوسط وعلاقته بالولايات المتحدة الأميركية بل بالغرب عموماً، وظهرت طهران على المسرح السياسي في مشهد جديد تبدو فيه وكأنها المتحدث الرسمي باسم دول الشرق الأوسط وكأنها أيضاً حجر الزاوية في صياغة المستقبل وتحديد المسار القادم للمنطقة برمتها، وكان حرياً بالعرب أن يقولوا لواشنطن إن موضوع الملف النووي في الشرق الأوسط هو تعبير عن قضية شاملة لا تقف عند حدود إيران ولا حتى إسرائيل لأن أمن وسلامة المنطقة وحدة لا تتجزأ ولا تقبل أبداً أن تتزعم دولة بذاتها الموقف وتتصدر المشهد لكي تؤسس لمواقف جديدة نتيجة ظروف معينة حتى يصبح الملالي هم «شرطيو الخليج» بدلاً من الشاه الراحل الذي كان يلعب ذلك الدور.
سابعاً: إن وجود إسرائيل يمثل دائماً «قميص عثمان» الذي يرتديه كل من يتطلع إلى دور قيادي أو زعامة إقليمية، وعندما قامت الثورة الإسلامية في إيران حولت مقر القنصلية الإسرائيلية إلى مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية وكانت تلك بادرة مشجعة للفلسطينيين والعرب والمسلمين على حد سواء، ولكن تسريبات جرت تتحدث عن اتصالات غير معلنة بين طهران وواشنطن، وأن تلك الاتصالات امتدت من خلال بعض اليهود الإيرانيين إلى إسرائيل ذاتها، وقد لا يكون ذلك أمراً مؤكداً ولكن الشيء الذي ندركه تماماً هو أن إيران مثلت هاجساً أمنياً للدولة العبرية وحلفائها وفي مقدمهم الولايات المتحدة الأميركية، حيث ظن الجميع أن السياسة «البرغماتية» لإيران وديبلوماسيتها الذكية تستخدم الوجود الإسرائيلي في تبرير العداء مع الغرب وفي جمع شمل المسلمين وراء السياسة الإيرانية، وربما حقق ذلك بعض الإيجابيات لطهران، ولكنه لم يعبر عن سياسة مستقرة لإيران لدى حلفائها من دول الجوار وفي المنطقة عموماً. كما أن التهديد الإيراني لإسرائيل لا يبدو حقيقة واقعة، ولكنه مبرر إسرائيلي فقط لتضخيم قضية أمنها وابتزاز حلفائها.
إذا تأملنا النقاط السالفة فإننا نضيف إليه الدور الإيراني في الأزمة السورية وكيف استخدمت طهران علاقاتها الوثيقة بسلطة الحكم في دمشق لكي تزيد من إحكام سيطرتها داخل سورية فضلاً عن دعم حزب الله الموازي لها في لبنان، ثم جاء ملف الدعم الإيراني للحوثيين وصواريخهم التي تستهدف المملكة العربية السعودية لكي يكون مؤشراً آخر عن رغبة إيران في السيطرة الدائمة للتواجد في كل مكان من دون استثناء... إن السياسة الإيرانية لدولة إسلامية كبيرة كان يجب أن تكون إضافة إيجابية للعالمين العربي والإسلامي وليست خصماً له أو عبئاً عليه، ولكنها في النهاية أقنعة إيران للسيطرة الإقليمية في غرب آسيا والشرق الأوسط.
مصطفى الفقي ;
جريدة الحياة العدد
تاريخ النشر: 25 ديسمبر 2017
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/847643/%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86-%D9%88%D8%A3%D9%82%D9%86%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%B7%D8%B1%D8%A9