الدكتور محمود محيى الدين مثقف رفيع الشأن يطل دائمًا على الأفكار الجديدة والآراء المدروسة ويطلق الأحكام الصائبة، وفى كل المواقع التى تولاها كان نموذجًا مشرفًا، سواء فى الجامعة أو فى الوزارة أو فى المنظمات الدولية، فضلاَ عن أنه سليل عائلة عريقة قدمت للوطن المصرى أسماء كبيرة من أمثال زكريا وخالد وفؤاد وعمرو محيى الدين وغيرهم من شخصيات تنتمى إلى هذه العائلة ذات الإسهامات الرفيعة فى شئون الوطن وقضاياه، ومحمود محيى الدين لا ينسى أبدًا أنه مثقف بالدرجة الأولى قبل أن يكون مسؤولاً دوليًا أو خبيرًا اقتصاديًا، ومازلت أتذكر أنه عندما تولى الوزارة فى مصر أصدر سلسلة دورية من الكتابات حول الأعلام فى تاريخنا الحديث ليؤكد أن علم الاقتصاد لا يقف وحيدًا، ولكن يجب أن يكون محاطًا دائمًا بحزمة ضخمة من المعارف فى كل اتجاه، ولقد صدر كتابه الأخير عن دار الشروق بعنوان (فى التقدم .. مربكات ومسارات) ضمنه عددًا كبيرًا من المقالات التى تدور حول الشأن العام والقضايا الدولية والإقليمية المعاصرة، وتبدو أهمية هذا الكتاب فى تنوع مادته وبساطة أسلوبه، ولقد أتاح له ذلك أن يتناول موضوعات كثيرة فى الفصول التسعة بدءًا من الفصل الأول الذى يركز على التنمية والتقدم والفصل الثانى الذى جاء بعنوان المربكات الكبرى، بينما يقترب الفصل الثالث من جائحة كورونا وآثارها المعجلة والمنشئة، وقد خصص الفصل الرابع لفرص وتحديات العصر الرقمى ثم ركز فى الفصل الخامس على تطورات الاستثمار وخدع الأسواق، ويمس فى الفصل السادس أوضاع المهاجرين فى أنحاء العالم بعنوان مستجدات الاقتصاد الدولى، ثم ينتقل من المستوى العالمى إلى المستوى الإقليمى ليكشف عن هويته كاملة فى الفصل السابع حين يتناول اقتصاد العرب ثم يخرج منه إلى الفصل الثامن ليكتب عن إدارة الأزمات الاقتصادية ثم ينتهى فى الفصل التاسع مشيرًا إلى لحظاتٍ وكلمات تتعلق باقتصاد عموم الناس بلغته الموحية بالمعنى الذى يقصده مباشرة فكلمة عموم الناس تعطى الإحساس بأن محمود محيى الدين ابن للمجتمع الذى نشأ فيه والأرض التى خرج منها، وهو يقول فى مقدمة كتابه: تجد الأمم منذ نشأتها سواء بإرادتها أو رغمًا عنها وهى فى سباق مستمر ولا يتوقف هذا السباق لحظة واحدة للراحة أو ليلتقط اللاهثون أنفاسهم، فالسباق لا يعنيه من يتقدم فيه أو يتأخر ولا يكترث بمن يصمد فيه أو يترنح، ولا مجال للصدارة لمن يتخاذل أو يكتفى بلوم قواعد اللعبة أو التنديد بما قد يكون فيها من غبن أو تلاعب فصدارة المتقدمين فى السباق هى مسألة اختيار وإرادة، وذلك منذ بداية تعرفنا على حضارات الأمم، وهذا فى ظنى استهلالٌ طيب بمقدمةٍ معتبرة يدلى فيها الرجل بدلوه ويتضح منها مصادر فكره، والتقليب فى كتاب محمود محيى الدين متعة خالصة لأن ذلك الاقتصادى الكبير قد جمع بين مناهج البحث النظرى وتطبيقات الواقع العملى فخرج علينا بهذه الأطروحات الذكية التى تصنع خلفية مهمة لكل اقتصادى وتسمح له أيضًا بأن يكون جنديًا من جنودها، وإذا كانت الشخصيات الموسوعية قد اختفت من تاريخنا المعاصر فإن ذلك يرجع إلى نضوب مصادر المعرفة وجفاف الضخ المستمر من أمهات الكتب وأوعية العلم، ولكن محمود محيى الدين يخرج عن السياق دائمًا ليبهر قارئه بكتابات جديدة وتأملات عميقة وهو يقول فى أحد فصول كتابه ما نصه (وفى هذا العالم الذى يشهد منافسة حول إمكانية الانتفاع بمستحدثات الثورة الصناعية الجديدة وعمادها النقلات النوعية فى مضمار تكنولوجيا المعلومات والتحول الرقمى، ينبغى للدول أن تتهيأ بالاستثمار فى البشر والإلمام بعلوم العصر، ومن أهمها ما يرتبط بإدارة قواعد البيانات الكبرى والذكاء الاصطناعى) وهو بذلك يضع يديه مباشرة على جوهر القضية ويصيب كبد الحقيقة باستشراف المستقبل والبحث عن المفاتيح المهمة لطرائق التفكير، وهو ينتهى صراحة إلى أن العلم والمعرفة والتعليم والتدريب هى أدوات المستقبل لصياغة مجتمع الغد بكل ما يملكه من أسباب النجاح وتحقيق القفزات الكبرى فوق المربكات حتى تمضى فى طريقها المسارات، إن كتاب محمود محيى الدين يتضمن فقراتٍ متناثرة يصلح كل منها لكى يكون كتابًا وحده بما يحتويه من ملاحظات ونصائح وما يقوم به من حصرٍ لكثير من مشكلات العصر، ويختتم ذلك الاقتصادى الدولى الكبير والمفكر الرصين كتابه الشامل المتنوع بعنوان - لحظات فارقة - يرصد فيه عام وباء الجائحة التى عصفت بالجنس البشرى قائلاً: (إن الأمر لا يتبع إحدى النظريات الرياضية أو الفيزيائية فى التنبؤ بالأحداث فى عالم الاقتصاد السياسى، خصوصًا فى التعامل مع أمور يسيطر عليها السلوك البشرى باختلاف ردود أفعاله وتباينها، ومخالفتها فى أحوال كثيرة للتوقعات، وتظهر دراسات تنتمى لمدرسة ما يعرف بالتاريخ البديل بأن وقوع ذات الحدث فى زمن آخر وظروف مختلفة لايؤدى أبدًا لذات النتيجة، فلكل زمانٍ خصائصه ولكل أوانٍ تقاليده).
إن كتاب الدكتور محمود محيى الدين يقدم وجبةً ثقافية تدور حول فلسفة الاقتصاد وتعطى من يرتاد صفحاته إحساسًا بالمتعة الفكرية والثراء المعرفى والتطلع نحو المستقبل بخطى ثابتة.
جريدة الأهرام
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/845810.aspx