يأتى بابا الأقباط فى مصر من خلال القرعة الهيكلية التى لايتدخل فيها بشر، وقد شاءت إرادة الله أن يأتى كل بابا غالبًا فى موعده مع القدر، فإذا ما غادرنا عصر البابا كيرلس الرابع وكيرلس الخامس فقد لا تلفت أنظارنا الفترة التالية على ذلك بسبب ضعف دور الكنيسة فى ذلك الوقت رغم ظهور تنظيم جماعة الأمة القبطية على يد إبراهيم فهمى هلال ثم فترة البابا يوساب، وبمجىء البابا كيرلس السادس عام 1959 شغل مقعد مارمرقص الرسول وكان معروفًا بزهده وورعه وتقاه وقد ربطته بالرئيس عبدالناصر صلة إنسانية طيبة فكان البابا يزور الرئيس فى منزله كتعبير عن العلاقة الحميمة بعيدًا عن رسميات الدولة، حتى إن أبناء الرئيس الراحل عبدالناصر عندما ذكر أبوهم أمامهم أن كاتدرائية جديدة للأقباط الأرثوذكس سوف يبدأ بناؤها كسر كل منهم حصالة نقوده المتواضعه ووضعها الرئيس عبدالناصر فى منديل وأعطاها للبابا القديس فى إشارة رمزية إلى مساهمة أسرة الرئيس المسلم فى بناء كاتدرائية جديدة للأشقاء الأقباط، وقد أسهمت شركات القطاع العام المصرية حينذاك فى بناء تلك الكاتدرائية مع إسهام الدولة فى تشييدها، وحضر الرئيس عبدالناصر وضع حجر الأساس لها فى أثناء زيارة للإمبراطور هيلاسيلاسى للقاهرة كضيف شرف تعبيرًا عن العلاقة الوثيقة بين طرفى الكنيسة الأرثوذكسية فى مصر وإثيوبيا والتى كانت فى ذلك الوقت وثيقة وقوية، وهكذا ظلت حبال المودة قائمة بين الرئيس عبدالناصر المشهود له بالكاريزما الشخصية والذى كانت شعبيته كاسحة فى ذلك الوقت والبابا الناسك الورع، وشاءت الأقدار أن يرحل عبد الناصر فى خريف 1970 وأن يرحل بعده فى ربيع 1971 البابا الزاهد المتعبد الذى لم يتدخل فى السياسة وترك مالله لله وما لقيصر لقيصر، وبرحيل الرئيس والبابا ظهرت على المسرح شخوصٌ جديدة، رئيسٌ مختلف هو أنور السادات، وبابا شاعر وصحفى وضابط احتياط وراهب مؤسس فى مدارس الأحد بالكنيسة الأرثوذكسية، ومنذ البداية لم تتفاعل الكيمياء الإيجابية بين الرئيس السادات والبابا شنودة الثالث فوقعت أحداث الخانكة ثم الزاوية الحمراء وبدأت إرهاصات التحرش الطائفى فى بعض المناطق، ولقد كان ذلك متوقعًا لأنه عندما تكون هناك زعامة كبيرة بحجم عبدالناصر تغطى مساحة من الوطن بمساجده وكنائسه وأديرته ومزاراته الدينية فإنه من الطبيعى ألا نعرف شيئًا عما يجرى تحت الرماد، ولقد قال لى الدكتور لويس عوض ذات مرة ونحن نتناول الغذاء فى النادى الدبلوماسى إن عبدالناصر كان يرسل من رجاله من يسمعون الوعظات داخل الكنائس، فقلت له ويحك يا دكتور لويس لقد كان ذلك العهد يرصد ما يجرى فى المساجد بنفس الدرجة أو يزيد، وأنا أعذر أسلوب تفكير ذلك المفكر المصرى الكبير فيما وصل إليه إذ لم يكن بين الضباط الأحرار فى 1952 إلا ضابط صغير واحد مسيحى الديانة هو شكرى فهمى، ولم يشارك فى حركة 23 يوليو إلا ضابط قبطى آخر هو واصف لطفى حنين، ولاعجب فقد كانت تأثيرات جماعة الإخوان المسلمين شائعة بين عددٍ من كبار ضباط الثورة المصرية، ولاشك فى أن علاقة عبدالناصر بالبابا كيرلس كانت ظاهرة إيجابية للغاية فى تلك الفترة، بخلاف الكيمياء الغائبة بين الرئيس والبابا الأهم فى تاريخ الكنيسة القبطية فى القرن العشرين وأعنى به البابا شنودة الثالث الذى تبلورت بفضله هوية الأقباط عربيًا ودوليًا، فلقد كان ذلك البابا الراحل قوى الشكيمة واسع الاطلاع عميق الثقافة، وأنا شاهد مباشر على علاقته بالرئيس الراحل مبارك التى كانت علاقة ممتازة فى مجملها إلا أن الرئيس كان لا يهوى القرارات الكبيرة ولكنه متعاطف فى أعماقه مع عدد من مطالب الأقباط فهو الذى جعل السابع من يناير كل عام عطلة رسمية لجميع المصريين مسلمين ومسيحيين، وعندما جرت أحداث 25 يناير 2011 وقف منها البابا شنودة الثالث موقف المراقب برغم مشاركة نسبة عالية من الأقباط رجالاً ونساءً فيما جرى وقتها وبعدها، وقد رحل البابا الذى ملأ الدنيا وشغل الناس بعد حياة حافلة عام 2012، وجاءت القرعة الإلهية بأحد الأساقفة الشباب نسبيًا من محافظة البحيرة وهو البابا تواضروس الثانى الذى عمل طويلاً مع الأنبا باخميوس الذى شغل الفترة الانتقالية باقتدار وحكمة قائمًا بمقام البابا الراحل حتى تولى البابا الجديد وهو تلميذه الأثير، ولابد من وقفةٍ هنا لتحية ذلك البابا الذى جاء فى بيئة مختلفة ومناخ سياسى جديد وظروفٍ شديدة الحساسية فى ظل حكم الإخوان وانتفاضة 30 يونيو 2013 حتى شارك فى اللقاء التاريخى للقوى السياسية المصرية بقيادة المشير عبدالفتاح السيسى فى الثالث من يوليو لنفس العام، ولقد عاصرت فترة البابا الجديد اعتصام رابعة ونهضة مصر وفضهما وفرض إرادة الدولة كاملة فى جميع مناحى الحياة، وكانت قد تعرضت دور العبادة المسيحية لاعتداءات مدبرة وحرائق لعشرات من الكنائس ولكن البابا الجديد الهادئ بطبعه الصبور بحكمته استطاع اجتياز تلك المرحلة الشائكة وتعاون بقوة مع الرئيس الجديد للبلاد وبرنامجه الجاد فى إصلاح أحوال المصريين ومضى مؤيدًا له، وعندما جرى ذبح عشرين مصريًا قبطيًا على ساحل البحر فى ليبيا على يد الإرهابيين الذين يتشدقون بالدين كان صمود البابا تواضروس الثانى وخلفه الكنيسة الأرثوذكسية المصرية الوطنية موقفًا يسجله التاريخ بكل الاعتزاز لمن يؤمنون بالوطن ويعلون راياته دائمًا، حتى إن البابا تواضروس الثانى قال قولته التاريخية (وطنٌ بلا كنائس خيرٌ من كنائس بلا وطن) وهى مرادفة للعبارة التقليدية التى ذكرها مكرم عبيد باشا وكان البابا شنودة يرددها دائمًا وهى أن (مصر ليست وطنًا نعيش فيه ولكنها وطن يعيش فينا) ويحرص الرئيس المصرى حاليًا على مشاركة الأقباط الاحتفال بعيد الميلاد كل عام فى الكاتدرائية الجديدة .. إنه وطن واحد وشعب واحد.
جريدة الأهرام
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/848363.aspx