هناك أحداثٌ عارضةٌ فى حياتنا، ولكنَّها تترك بصماتٍ غائرةً على مشاعرنا، فقد دُعيتُ ذات يومٍ إلى مؤتمر يتصل بقضايا المرأة، وينعقد فى مقر المجلس القومى للمرأة، بمبنى الحزب الوطنى، الذى احترق فى أحداث ثورة يناير 2011، ولبَّيتُ الدَّعوة، وعلمتُ أن السيدة سوزان مبارك ستكون على قِمَّة الحضور، وستُلقى بخطاب افتتاحى فىالبداية، وقد كنتُ وقتها رئيسًا للجامعة البريطانيَّة فى مصر، ومقرها فى مدينة الشروق، فاتجه بى السَّائق من الجامعة إلى المُؤتمر فى ميدان التحرير، وهى مسافة لا تقل عن خمسين كيلومترًا، وعندما وصلتُ مقر المُؤتمر كنتُ مُرهقًا للغاية، وبحثتُ عن مقعدى الذى يُوضع عليه اسمى للجلوس أسوة بزملائى المدعوين، وإعمالاً للسَّوابق المُعتادة فى أن يكون لى مقعدٌ محددٌ أجلس عليه، وقد سألتُ مدير المراسم، وهو ضابط مُتقاعد من القوات المسلحة، عن مكانى، فأجاب بأنه لا يعرف، وعندما ألححتُ فى السُّؤال وارتفعتْ نبرة صوتى، قال لى مدير المراسم إنه ليس من مهام عمله أن يجد مكانًا لى، وأنه لا يعمل عندى، واحتدم النِّقاش، وارتفع الصَّوْت، وللأمانة لم أكن أعلم أن السيدة سوزان مبارك قد وصلت قبل موعدها بعشر دقائق، واستمعت إلى ذلك الصِّياح المُتبادل.
وبعد ذلك بيومين أو ثلاثة اتَّصل بى صديقى الرَّاحل اللواء جمال عبدالعزيز، الذى كان يشغل منصب رئيس سكرتارية رئيس الجمهورية، ليبلغنى برسالة من السيدة سوزان مبارك تطلب منى الاستقالة من المجلس القومى للمرأة، بعد المُشادَّة التى حدثت ولم يكن لها مُبرر، وقد حاولت الدكتورة فرخندة حسن الأمين العام للمجلس القومى للمرأة حينذاك أن تثنى السيدة سوزان مبارك عن قرارها، خصوصًا أننى كنتُ عضوًا فى المكتب التَّنفيذى للمجلس القومى للمرأة، كما أن علاقتى الطَّويلة بالسيدة سوزان حرم السيد رئيس الجمهورية الأسبق تذهب بعيدًا إلى ثمانينات القرن الماضى، عندما بدأتُ العمل فى مؤسسة الرِّئاسة سكرتيرًا للرَّئيس، مع القيام أيضًا بأىِّ تكليفات تصدر من السيدة الأولى، خصوصًا ما يتصل منها بصياغة الخُطب التى تلقيها قرينة السيد رئيس الجمهوريَّة، التى تتميز بعُمق الأفكار والقُدرة على ترتيب مراحل النُّهوض بالثَّقافة من خلال مشروع «القراءة للجميع»، ومشروع «مكتبة الأسرة»، وغيرهما من الإنجازات التى تُحسب للسيدة سوزان مبارك.
وقد تقدَّمتُ باستقالتى بالفعل من المجلس، ولم أعد إليه بعدها حيث كان ذلك قبل قيام ثورة 25 يناير 2011 بعامين تقريبًا، وكان قرار السَّيدة الأولى رئيسة المجلس القومى للمرأة صدمةً لى؛ لأننى كنتُ أظن أننى أثيرٌ لديها، بحكم رضائها عن الأعمال التى تكلفنى بها لسنوات طويلة، بما فى ذلك فترة عملى سفيرًا فى فيينا، حيث كانت سكرتيرتها ترسل لى الأفكار الرَّئيسيَّة التى ترى السيدة الأولى أن يتضمنها خطابها الذى أقوم بصياغته، ثم تراجعه السيدة الأولى وتضيف إليه أو تحذف منه، لذلك لم أكن أتوقع أبدًا أن تتخذ قرارًا بهذه الشِّدة والسُّرعة معًا، ولكننى أشهد بأنها كانت سيدةً فاضلةً تتميَّز بعُمق التَّفكير والعقل المُنظم والقُدرة على تجميع الأفكار فى المُناسبات المختلفة.
وقد دارت الأيام دورتها ودعانى زميل دراستى الوزير محمد العصار فى عام 2016 إلى عشاء مع مجموعةٍ من الأصدقاء فى أحد فنادق القوات المسلحة بالقاهرة، ووجدتُ أن الذى يستقبلنى هو الشَّخص ذاته الذى كان الطَّرف الآخر فى المُشادَّة التى نتحدَّث عنها، ووجدتنى أقبِّله فى محبَّة وهو يبادلنى الأمر بخُلقٍ طيبٍ ونفسٍ راضيةٍ، وقد مضى على تلك المُشادَّة ما يزيد على ثمانى سنوات، والحياة تُعلِّمنا النِّسيان والغفران معًا، كما أن ضبط النَّفْس قضية تجعلنا فى وضعٍ أفضل دائمًا، أمَّا الانفعال وغضب الإنسان وهو مُرهق فيؤديان بصاحبهما إلى أن يفقد أصدقاءه، ويكتسب كل يوم خصمًا جديدًا، خصوصًا فيما يتصل بالمواقف شديدة الحساسية وبالغة التَّعقيد فى ظِلِّرغبة بعض الصغار فى استمرار الوضع القلق من أجل تمزيق مُؤسسات الدَّولة، والتَّأثير على معدل التَّلاحم بين أجهزتها المُختلفة.. إنها ذكريات عابرة لأحداث غائرة فى ظل وطن يحتوى الجميع.
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام العدد 284
تاريخ النشر: 26 يونيو 2018
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d9%85%d9%8f%d8%b4%d8%a7%d8%af%d9%91%d9%8e%d8%a9%d9%8c-%d8%a3%d9%85%d8%a7%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%8a%d8%af%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%88%d9%84%d9%89/