شاعت مع بداية النصف الثاني من القرن الماضي ظاهرة الانقلابات العسكرية سواء حملت اسم ثورة أو ظلت على اسمها «الخام» انقلاباً، واستأثر المشرق العربي وبعض دول أميركا اللاتينية ثم بعد ذلك عدد من الدول الأفريقية بظاهرة التغيير العسكري المفاجئ وأصبحنا نطلق عليها (ظاهرة السلطة فوق الدبابة)، وواقع الأمر أن التغيير المفاجئ في شكل السلطة أمر محتمل ولكن عندما يأتي مجرداً من الظواهر الإصلاحية أو محاولة الخروج من مشكلات الماضي ومعاناة الحاضر فإننا نكون أمام حركات انفعالية قد تؤدي إلى نتائج عكسية.
وما زلنا نتذكر حتى الآن أن كثيراً من تلك الانقلابات قد جاء بحكم الفرد وحرم الشعوب القدرة على الحركة الإيجابية وأدى إلى نمط من أنماط الديكتاتورية الفردية قبل أن تكون عسكرية، فالمشكلة لا تكون غالباً بسيطرة القوات المسلحة على مقدرات البلاد ولكنها تأتي غالباً من استئثار فرد أو مجموعة ضيقة بمقاليد الحكم وقيادة الجيش والشعب معاً، من هنا فإن تلك الظاهرة التي أرّقت أمماً وعصفت بشعوب هي أمر يستحق الدراسة من أجل الإجابة عن السؤال المحوري: ما هو دور الجيوش الوطنية في مجمله وهل الوصول إلى السلطة أحد أهدافها أم أن ظروف البلاد والضغوط الشعبية تفرض عليهم ما لا مناص منه؟ وأبادر وأسجل مرة أخرى أنني من المتحمسين للحركات الإصلاحية، كما أنني متحفظ غالباً على الإجراءات الثورية، فعندما يغيب الدستور ويتعطل القانون وتحل الشرعية الثورية محل الشرعية الدستورية فإننا نكون أمام وضع مقلوب قد يصعب الخروج عليه أو الإفلات منه، والآن دعني أناقش الظاهرة من خلال المحاور التالية:
أولاً: تختلف نشأة الجيوش من بلد عربي إلى آخر ولكنها تعبر في مجملها عن مضمون العلاقة الوثيقة بين الشعب وجيشه، فالعسكريون ليسوا مخلوقات مختلفة ولكنهم مواطنون شأن غيرهم وفرضت عليهم الظروف أن يكونوا وقوداً في الحروب وطليعة للتغيير، وقد ارتبطت نشأة كل جيش عربي بظروف تاريخية متميزة تختلف من قطر إلى آخر ولعل ذلك يفسر لنا التباين في هوية تلك الجيوش وشخصياتها، فالجيش المصري ولد وطنياً خالصاً حيث قام على بناء الدولة الحديثة «محمد علي» الكبير الذي أراد أن يحقق قدراً من الاستقلال عن السلطنة العثمانية ولم يكن ذلك ممكناً بغير جيش قوي، والجيش القوي يحتاج إلى تسليح ممتاز، والتسليح يأتي من خلال صناعة متطورة تقوم على أحدث تكنولوجيا في وقتها والأخيرة لا تتوافر في غير المناخ التعليمي في الداخل أو الابتعاث لطلب العلم من الخارج، من هنا حدث حراك كبير في المجتمع المصري خصوصاً في الطبقات التي كانت تمني نفسها بنهاية المعاناة كما دخل الفلاح المصري الجيش فكانت بداية الدولة العصرية الحديثة حيث يعود المجندون إلى قراهم بعد أداء خدمة العلم وهم أكثر استنارة ومعرفة وأوسع تجربة عن ذي قبل.
ثانيًا: تختلف بعض الانقلابات عن بعضها، فمنها من يقوده مغامر أحمق ومنها من يقوده إصلاحي صامت ولكنها في كل الأحوال تغيير مفاجئ في مسار الأحداث وحيازة السلطة ولذلك فإن درجة الرشد لدى الانقلابات العسكرية تختلف من واحد لآخر، فقد تحالف الإصلاحيون مع القيادات العسكرية في بعض الأحوال ولكنهم أيضاً لم يستكملوا الطريق وتوقفوا في منتصفه خصوصاً إذا دب صراع بينهم على السلطة وحدثت مظاهر للتمزق الذي قد يعصف بالمصالح العليا للبلاد لذلك فالانقلابات العسكرية ليست من نمط واحد أو نوعية محددة ولكنها قد تتشابه في الإجراءات وحدها بينما يختلف مضمون كل منها عن سواها وإن اتفقت في معظمها على تكريس حكم الفرد والجنوح نحو الدكتاتورية.
ثالثًا: إن العلاقة بين الشعوب والجيوش في العالم العربي تحتاج إلى تأمل، ففي بعض الدول يبدو الجيش وكأنه شريحة كاملة من الشعب يتفاعل معه ويتأثر به مثلما هو الحال في مصر، فالجيش مركزي لا يعرف الطائفية ولا تمزقه مظاهر الاختلاف حيث تبدو الجندية (فرض عين) على الجميع ويتحول الجيش إلى مصنع للوطنية ومصدر للتوازن في السلطة، بينما يختلف الأمر في دول أخرى حيث تبدو الجيوش معزولة عن شعوبها تقع أسيرة للطائفية وأحياناً للقبلية وثالثة للعنصرية، وليس من شك في أن العلاقة بين الجيش والشعب في كل دولة عربية هي معيار لدرجة الاستقرار وكفاءة النظام السياسي، وأنا ممن يستهجنون التفرقة الدائمة بين كلمة مدني وعسكري فالعبرة هي بالأفضل والأقدر والذي يستطيع أن يحافظ على سلامة الحدود والوحدة الإقليمية لأراضي الوطن، وقد يقول قائل إن هذا هو الواجب التلقائي للجيوش ولا نعتبره عملاً إضافياً لها فتلك رسالتها ومسؤوليتها في ذلك الوقت، وهذا صحيح إلا أن نزاهة تلك القوات المسلحة وارتباطها بشعبها يعتبر معياراً للاستقرار وسلامة التوجه شريطة ألا يؤدي ذلك إلى تفرقة بين ما يجب على كل عنصر على حدة.
رابعاً: لقد كان هناك تصور تقليدي في منتصف القرن الماضي يرى أن الجيوش بطبيعتها يمينية التوجه ترفض الاتجاه يساراً، كما أنها قابلة للتحالف مع التيارات الدينية على اعتبار أن ذلك «المثلث» القوات المسلحة وطبقة الأثرياء ومعهما رجال الدين يشكلون في النهاية رابطة قوية تؤثر في طبيعة السلطة ونوعية الحكم وقد يكون ذلك التصور صحيحاً في فترة معينة ولكنه لا يشكل قاعدة ملزمة نستطيع القياس عليها في كل الأحوال، نعم إن الجيوش بطبيعتها يمينية التوجه تتحمس للاقتصاد الرأسمالي وحرية السوق لأسباب تتصل بالميزات التي تحققها تلك السياسات ولكنها تتخذ أحياناً منحًى مختلفاً وفقاً لطبيعة القيادة ونوعية العلاقات الدولية التي تربط بين الجيش ومصادر تسليحه، ولعلنا نستطيع هنا أن نتذكر الجيش المصري في عهد عبد الناصر الذي كانت تحتفل بعض قطاعاته بعيد ميلاد لينين! على رغم أن عبد الناصر زعامة تاريخية مستقلة وقامة وطنية عالية ولكن ضرورات الحكم وطبيعة الظروف تفرض أحياناً ما لا يمكن الفكاك منه، ونحن في النهاية لا نستطيع أن نغفل العوامل الحاكمة التي تضع الجيوش في إطار معين داخل دولة بذاتها ولكنني أزعم أن الجيوش بطبيعتها أكثر اقتراباً من التدين السليم بحكم علاقتها المباشرة بالحياة والموت واحتمالات الاستشهاد في أي لحظة ولكنها في الوقت ذاته ليست مرتعاً للتطرف ولا منبراً للصدام لأنها تتحمل مسؤولية عليا تتصل بالأمن القومي والمصالح التي تؤثر بشكل مباشر في مستقبل الأوطان وليس فقط مجرد مستقبل النظم الحاكمة، إن الأمر يخرج عن ذلك ليجعل من الجيوش ابناً باراً لشعوبها لا ينقلب عليها ولا يعتدي على أبنائها بل يحافظ على هويتها ويدافع عن شرفها في ظل كل الظروف وأصعب الأوقات، ذلك هو فهمنا لدور الجيوش في حياة الدول ومستقبل الشعوب.
خامساً: من العبث أن نربط ربطاً مباشراً بين مفهوم الانقلاب وبين القوات المسلحة في بلد معين، إذ إن كثيراً من الانقلابات تأتي نتيجة انتفاضة شعبية أو تمرد مدني أو تراجع لسياسات لا مبرر لها، ولذلك فإنه من غير العادل أن نتصور أن الانقلابات كلها ذات طبيعة عسكرية لأن الشواهد تؤكد غير ذلك تماماً، إذ إن واقع الأمر هو أن الرأي العام عموماً ورد الفعل الشعبي لمواقف مرفوضة هو في حد ذاته تعبئة معنوية لكل أبناء الوطن في أن يشاركوا بقوة وبشكل فعال في كل القضايا المطروحة على الساحة مع إعمال الديموقراطية بمعناها العصري وتوسيع دائرة المشاركة السياسية ورصد الضغوط الأجنبية من كل اتجاه وفتح الباب أمام الحريات العامة مع رعاية كاملة لحقوق الإنسان، عندئذ لن نكون في حاجة لا إلى انقلاب عسكري أو تحرك ثوري لتغيير الأوضاع.
إن هذه المحاور الخمسة تؤكد أن حيازة السلطة بانقلاب عسكري أو ثورة شعبية تبدو لنا عملاً فجائياً قد تكون له تبعاته وتأتي بعده نتائجه التي لا تكون دائماً إيجابية وصادقة، فالأصل في الحياة السياسية أن تنشط القوى المختلفة وأن تزدهر حركة الأحزاب وأن تمتزج العناصر المدنية والعسكرية في بوتقة واحدة مدركين أن لكل منها دوره المختلف في ظل منظومة للعمل الوطني لا تفرق بين أبناء الوطن الواحد. إن علينا أن ندرك الآن أن جزءاً كبيراً من مشكلات العالم العربي المعاصر قد جاء نتيجة التغييرات الفجائية والانقلابات العسكرية وما يصاحب ذلك من مشكلات وأزمات وتحولات، لذلك فإنني أقول وبوضوح إن الحماس لبرنامج إصلاحي جاد وفقاً لجدول زمني واضح هو خير عشرات المرات من تغيير مفاجئ قد لا يراعي ضوابط الديموقراطية ولا حجم الحريات ولا مبادئ حقوق الإنسان. ونحن نظن صادقين أن التناغم بين قطاعات الشعب الواحد هو أمر له مردوده الإيجابي على حركة المستقبل، حتى وإن وقف بعضها موقفاً سلبياً إلا أن ما يحدث في النهاية يؤكد أن هناك رجالاً عظاماً حتى ولو اختار كل منهم توقيت الظهور والاختفاء حتى يمكن لنا أن نتحدث عن حسابات المستقبل واحتمالاته كما أن الأمر المتيقن هو أن السلطة في العالم العربي التي تأرجحت بين الانقلاب والثورة إنما هي تأكيد مباشر لمستقبل واحد ووجود مشترك ورغبة حقيقية في المرور فوق الأزمات والتغلب على المشكلات والتهيؤ للتحديات.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الحياة العدد
تاريخ النشر: 19 فبراير 2018
رابط المقالة: http://www.alhayat.com/article/848186/شباب/السلطة-في-العالم-العربي-بين-الانقلاب-والثورة