الفكر هو التحليق فى آفاق المستقبل اعتمادًا على خيال خصب ورؤية بعيدة مع موازنة عادلة بين إيجابيات وسلبيات كل موقف، فهو عملية ديناميكية يمارسها الإنسان فى كل لحظة من خلال التفكير فى أمر معين وليس عملية استاتيكية جامدة بل متغير ومتطور وفقًا لما يحيط به وما يستجد لدى الذاكرة من معلومات بعيدة أو أحداث قريبة، أما العلم فهو قطعى ومجرد ويمكن قياسه والتعرف عليه بشكل مباشر وهو عملية اكتشاف محايد للحقيقة لا يحتاج إلى خيال خصب أو رؤية بعيدة، ولكنه يتوقف على نظرية تقوم على التجريب والمشاهدة والاستنتاج، فالعلم يعتمد على دلالات رقمية واضحة ولا يحلق فى سماوات الخيال مثلما هو الأمر بالنسبة للفكر، لكن ذلك لا يعنى أيضًا أن العلماء فقراء الخيال، فكثير من الاكتشافات العلمية والاختراعات الكبرى جاءت نتيجة الملاحظة وإدخال الخيال عند الاستدلال حول تلك الملاحظة، مثلما لاحظ نيوتن عند سقوط التفاحة الشهيرة من الشجرة التاريخية التى رصدها ذلك العقل الفذ واستخلص منها مفهومه للجاذبية الأرضية، وكثير من الاكتشافات العلمية الكبرى جاءت أحيانًا بالصدفة البحتة أوالتأمل الطويل لتكرار بعض المظاهر أو الربط بين المشاهد المختلفة من خلال ذاكرة حية نطلق عليها الذاكرة الفوتوغرافية، إننى أكتب الآن هذه السطور منبهًا إلى أن التقدم الإنسانى والتطور البشرى إنما هما نتيجة تفاعل بين الفكر والعلم وتضفير مفردات كلٍ منهما مع الآخر لتتكون فى النهاية سبيكة مضيئة لرؤية المستقبل بإيجابياته المنتظرة وتحدياته المتوقعة، وأنا أدعو إلى التداخل بين الفكر والعلم فذلك هو سبيل التطور وطريق التقدم، والنقلات النوعية الكبيرة التى أثرت فى مسار البشرية كانت دائمًا وليدة للاقتراب بين الفكر والعلم وما من مفكر ضخم فى تاريخ البشرية إلا وكان إيمانه بالعلم مطلقًا وما من عالم مرموق إلا وكان إدراكه كبيرًا لأهمية الفكر واستخدامه لإضاءة الطريق وذلك لتمكين الرؤى الجديدة فى طفرات مهمة عبر مسيرة الإنسان على هذا الكوكب، من هنا فإن الأمر يستلزم وجود الفكر والعلم معًا، ويتوهم الكثيرون أن الفكر ينتمى إلى مدرسة نظرية وأن العلم يحتاج إلى دراسات تطبيقية، وواقع الأمر أن هذا التقسيم كلاسيكى لم يعد له وجود فالفكر والعلم معًا هما وجهان لعملة التقدم وسبيكة التطور فى كل العصور، ويستحسن هنا أن ندفع ببعض الملاحظات:
أولاً: إن وهم العلوم النظرية وارتباطها بالفكر ووهم العلوم التطبيقية وارتباطها بالعلم أصبح أمرًا يحتاج إلى مراجعة فى ظل التقدم التكنولوجى الكاسح وثورة الرقمنة التى أحالت النتائج الفكرية إلى دلالات رقمية وأدت إلى عملية تجسير للفجوة التى تصورها الأقدمون والسابقون للمسافة البعيدة بين الفكر والعلم، فهذه لم تعد موجودة كما أن الإيمان المطلق بأحدهما هو جموح لا يستند إلى منطق سوى إذ لا يوجد تنافس بين الفكر والعلم، بل هو تكامل يجعل حاجة كل منهما إلى الآخر ضرورة لايمكن تجاهلها.
ثانيًا: إن التطور الذى شهدته البشرية فى الخمسين عامًا الأخيرة يكاد يتفوق على الخمسمائة عام السابقة عليه، فالإيقاع أسرع والتطور يمضى بمعادلة هندسية تشير إلى معايير واضحة فى التقدم الإنسانى، والإنسان هو ابن الخبرة ونتاج التجربة فحصيلة الوعى الذى يتكون لديه إنما تأتى من الفكر والعلم معًا، إن يوهان جوتنبرج الذى اخترع الطباعة هو مثال لتوظيف العلم فى خدمة الفكر، فقد أدت المطبعة دورًا هائلاً فى تنامى الأفكار وشيوع الآراء وأصبحت ميزة مشتركة للعلم والفكر معًا وليست وليدة أحدهما دون غيره.
ثالثًا: إن الخيال هو صانع المعجزات وفقراء الخيال لا جدوى منهم ولا فائدة، فالخيال هو الذى يصنع مجتمع الأمل ويعطى التصورات الصحيحة للمستقبل فكل النتائج العظيمة فكريًا وكل الحقائق الدقيقة علميًا إنما نجمت فى مجموعها عن العلاقة بين الفكر والعلم وأهمية الاعتماد عليهما معًا لإحداث قفزات التطور ونقلات التغيير.
رابعًا: إن التطبيق العملى للعلاقة بين الفكر والعلم على الصعيد الوطنى المصرى إنما يتشكل من خلال الجدل الدائر فى المقارنة بين الدراسات النظرية والدراسات العملية وحاجة المجتمع فى مستقبله القريب إلى دراسة العلوم والرياضيات والاهتمام بالبحوث التطبيقية فى هذا الميدان، خصوصًا أن الإقبال عليه قد بدأ ينحسر، فدراسة الطب والهندسة وغيرهما من الدراسات المرهقة أصبحت فى نظر السطحيين غير مجدية إذ إن اختصار الطريق بدراسات نظرية سهلة هو أمر له جاذبية لدى الأجيال الجديدة التى لا تريد أن ترهق نفسها أو تضيع سنوات عمرها فى البحث والدراسة وتكتفى فقط بالحصول على شهادة جامعية تسمح لها بدخول سوق العمل حاملة تلك الشهادة التى قد لاتكون التنمية الوطنية فى حاجة إليها.
هذه ملاحظات أردنا منها أن نوضح أن للفكر والعلم أهمية بالغة وأنه لا ينأى عن أحدهما الاحتياج للآخر، فالدراسات النظرية والدراسات التطبيقية لازمتان للتقدم، ويجب أن نشجع فى مصر التركيز على الدراسات العلمية التى تراجعت فى السنوات الأخيرة وضعف الإقبال عليها، لأن الدولة القوية تحتاج إلى الفكر والعلم معًا.
جريدة الأهرام
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/854924.aspx