عندما نفكر فى المستقبل قد تبدو الأمور واعدة والأمل يدفع إلى مواصلة الطريق وقديمًا قالوا تفاءلوا بالخير تجدوه، ولكن ذلك التفكير الحالم يصطدم دائمًا بصخرة الانفجار السكانى فى مصر التى أعتبرها مشكلة المشكلات، ولقد دعوت منذ شهور إلى ندوة عن المستقبل فى بيت السنارى التابع لمكتبة الإسكندرية، وحضرها جمهرة من المثقفين من مختلف ألوان الطيف الفكرى والسياسى، وبدأ الكاتب الكبير مفيد فوزى الجلسة بأن دعا إلى ضرورة التركيز على المشكلة السكانية فهى أم المشكلات والعقبة الكؤود التى تؤدى إلى انفصام فكرى واضح بين الأحلام فى ناحية والحقائق فى ناحية أخرى، إذ إن معدل الزيادة السنوية للسكان أصبح قادرًا على التهام نتائج الجهود الجبارة للتنمية، وأصبحنا أمام تساؤل ملح إلى أين نحن ذاهبون؟ ولماذا افتقدنا الجدية تاريخيًا فى معالجة مسألة الزيادة السكانية رغم كثرة المجالس التى اهتمت بالأمر والوزارات التى اتجهت لعلاجه، وهنا أستأذن القارئ المصرى بل والعربى أيضًا فهموم مصر جزء لا يتجزأ من هموم أمتها العربية، ولأن مصر كانت دائمًا قاطرة التقدم فإنها يمكن أن تكون أيضًا مظهرًا بارزًا للتراجع لو أصابها مكروه لا قدر الله، وفى ظنى أن معضلة الزيادة السكانية فى مصر كانت ولاتزال وسوف تظل الهاجس الرئيس فى العقل التنموى المصرى فهى قضية ذات أبعاد اقتصادية وسياسية، ثقافية واجتماعية، إنسانية وسلوكية أيضًا، ولذلك فإننى أطرح على القارئ بعض الملاحظات الجوهرية التى تلح على خاطرى فى هذا السياق، ونحن نمضى فى الحوار الوطنى من أجل مستقبل أفضل ودولة مترابطة واضحة الطريق محددة المعالم، وهذه النقاط هي:
أولاً: إن المشكلة السكانية ليست وليدة اليوم أو الأمس القريب، ولكن بوادرها بدأت تلوح فى الأفق مع نهاية النصف الأول من القرن العشرين، فقد كانت الإحصاءات السكانية تمضى بزيادات محتملة منذ أول إحصاءٍ تم وحتى إحصاء عام 1897، وظل الأمر كذلك لربع قرنٍ بعدها لكى تنتقل المعدلات من المتوالية العددية إلى المتوالية الهندسية، وعندما قامت ثورة يوليو 1952 كان عدد السكان يدور حول 22مليونا، ولكن الأرقام أفلتت بعد ذلك ودخلنا فى معدلات عالية تشير إلى بداية انفجار سكانى، ويكفى أن نتذكر أن الثلاثين عامًا التى حكم فيها الرئيس الراحل مبارك قد ضاعفت من عدد السكان الذى كان يدور حول أربعين مليونًا إلى ماهو أكثر من ثمانين مليونًا قبيل ثور يناير 2011، ويضرب العدد الآن فى المليون الخامس بعد المائة نذيرًا بمشكلة حقيقية لابد أن تتصدر أولويات الحوار وأن تستحوذ على الأهمية القصوى كقضية أولى تعترض طريق التنمية فى مصر، وبالتالى تعوق السبيل نحو النهضة التى يسعى إليها نظام الحكم حاليًا.
ثانيًا: لابد أن نعترف هنا بأن مصر عبد الناصر والسادات ومبارك قد عرفت محاولات لتحجيم عدد السكان وذلك من خلال تحديد النسل أو ما أطلق عليه تنظيم الأسرة ولكن دون جدوى، فالبعد الدينى لهذه المشكلة يعطى انطباعًا بذلك ويعتمد على المقولة الشريفة (تناسلوا تناكحوا فإنى مباهٍ بكم الأمم) أو قول الحق تبارك وتعالى (وما من دابة فى الأرض إلا على الله رزقها) فالطفل فى المفهوم الدينى يولد ومعه رزقه، فلا داعى للتحديد أو التنظيم فهى مسئولية الله سبحانه وحكمته فى خلقه! ورغم أن الخطاب الدينى حاول أحيانًا أن يتماشى مع حلول للمشكلة فإن ذلك لم يحرز تقدمًا ملحوظًا، خصوصًا وأن الطبقات الفقيرة فى القرى والمدن الصغيرة يرون فى الأطفال الجدد قوة إضافية يدفعون بها إلى سوق العمل من أجل دخلٍ إضافى للأسر الأكثر عددًا والأشد فقرًا، ونلاحظ هنا أن الزيادة السكانية لا تقف عند هذا الحد لأنها زيادة فى الكم مع انخفاضٍ فى الكيف، فالذين يحددون النسل وينظمون الأسرة هم الأعلى دخلاً على نحو يسمح لهم بالاستثمار فى تعليم أبنائهم وبناتهم، أما الأسر الفقيرة التى تطلق العنان للمواليد فيها فلا تستطيع تعليم أبنائها فضلاَ عن توفير الاحتياجات الأساسية لهم!
ثالثًا: إن الثقافة الشعبية فى مصر تدعم الأسرة الكبيرة بمنطق (العزوة) وتركيز العصبية العائلية خصوصًا فى ريف الدلتا وصعيد مصر، فالتقاليد الاجتماعية والقيم السائدة لاتساعد على مواجهة الانفجار السكانى بل هى تدعم الاسترسال فى الإنجاب مهما تكن الظروف الصعبة والعوائق القائمة، كذلك ارتطمت برامج تحديد النسل بمشكلات أخرى مثل انتظار الأسرة لمولودٍ ذكر حتى ولو سبقه نصف دستة من الإناث! لذلك فإن الفهم الدينى المغلوط والتراث الشعبى المسطح يصبان معًا فى تعويق حركة تحديد حجم الأسرة وتنظيم النسل.
رابعًا: ينتابنى أحيانًا خاطر شيطانى يرى أن المصريين سعداء بالحجم السكانى لبلدهم وأنهم يرون فيه ميزة نسبية تحيل الدور السياسى إلى مظهرٍ من مظاهرالقوة فى نواح أخرى من مقومات الدولة العصرية، ولا أظن أن عاقلاً يقبل أن يغامر بوجود أزمة سكانية محتدمة مع توزيع طبوغرافى مختل ثم يتطلع بعد ذلك إلى دولةٍ قوية منيعة تقود ولا تقاد، إذ إن الفارق بين النمو والتنمية هو الفارق بين الأحجام الكمية وبين الأوزان النوعية.
أيها السادة المتحاورون من أجل مستقبل مصر إن القنبلة السكانية خطرٌ داهم لابد من مواجهته اليوم قبل الغد، وقد يقول قائل إن الصين والهند الأكثر عددًا هى دول متقدمة نوعيًاوهذا صحيح لأنها استطاعت أن تحيل الحجم الكمى إلى تفوق نوعى ولو فى بعض المجالات على نحو يحدث توازنًا فى هيكلها الاقتصادى ووزنها السياسى وقيمتها الإقليمية والدولية.
جريدة الأهرام
https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/864719.aspx