بهرنى كثيراً ما قاله عالِم الاقتصاد «شريف دلاور»، الذى يسكن الثغر السكندرى، ولكنه ينشر مقالاته فى الصحافة القومية، ويتحدث دائماً كمَن يحمل شعلة تنوير يضىء بها الطريق، خصوصاً فى المسائل الاقتصادية والأمور المتصلة بالمستقبل والقضايا المهمة التى تفرض نفسها غدًا وليس اليوم فقط، لقد وقف الرجل، الذى تربطنى به علاقة طويلة وصداقة مستمرة، لكى يقول كلاماً جديداً، بعد أن تحدث عدد من الوزراء برؤية واضحة للحاضر، ولكن «شريف دلاور»، الذى كان الوحيد على منصة الحوار من غير الوزراء، قد فاجأ الجميع بتفكير مختلف ومنطق يرتبط بعلم المستقبليات، فإذا به يمزق الأوراق القديمة ويفتح آفاقاً لملفات جديدة، كان كل مَن يسمعها يدرك أنها الصدق بعينه، لأنها تمثل نقلة نوعية من تفكيرنا التقليدى إلى تفكير متجدد ومختلف نحن أشد ما نكون حاجة إليه وحرصاً عليه، ولقد قال الرجل فى وضوح: ماذا يعنينا الآن من تكرار الحديث عن الصراع بين «نجيب» و«عبدالناصر» والعالم حولنا يقطع أشواطاً غير مسبوقة على مدارج النهوض والتقدم والازدهار؟! فالعلوم الحديثة- التى نشأت نتيجة التزاوج والاندماج بين بعض العلوم التقليدية- أصبحت هى طريق المستقبل، وضرب الرجل أمثلة لما وصل إليه العالم المتقدم من أطروحات وصلت بالإنسانية إلى مدارج عليا، منها إمكانية الحصول على الذكاء الصناعى وتدريب العقول وجدولة الأذهان وتهيئة الأجيال الجديدة لعصر مختلف تماماً عما نحن عليه، فالبشرية تهجر الماضى وتتطلع بسرعة مذهلة للمستقبل وعلومه ومعارفه، فالمعرفة هى القوة الحقيقية وهى (ثروة الأمم) وهى (منارة الشعوب)، وأظن أن الرئيس «عبدالفتاح السيسى» قد أعجبه كثيراً ما قاله العالِم المهندس «شريف دلاور»، وعلق على ذلك بشكل إيجابى، مؤكداً ما ذهب إليه ذلك المفكر السكندرى المرموق، الذى تحدث معى قبل تلك الجلسة عن رغبته فى التعاون مع «مكتبة الإسكندرية» للتبشير بالعلوم الجديدة وطرح أفكاره الرائدة، ولقد رحبت بذلك كثيراً، بل ألححت عليه فى ذلك السياق، إننى أقول ذلك الآن لكى أدعو علماء ومفكرى ومثقفى «مصر» إلى الخروج قليلاً من شرنقة الماضى، الذى لا ننساه بالطبع ولكننا لا نعيش أسرى له أو نصبح ضحايا العصر لأفكاره ومؤشراته، فلكل أوان أذان مثلما يقولون، كذلك فإن لكل مرحلة أفكارها ورموزها- وأيضاً- علماءها ومفكريها، وليت جامعاتنا ومراكز البحوث لدينا تتهيأ لاقتحام الآفاق الجديدة فى العلوم المستحدثة، ولكى لا أكون ظالماً، فإننى أظن أن بعضها قد سلك ذلك الطريق، ولكن لم يُكتب له الذيوع والانتشار، ومازلنا نلوك علوماً قديمة ونكرر دراسات تقليدية عفا عليها الزمن، فالاختراعات العلمية والاكتشافات الجديدة تعطى كلها مؤشرات مختلفة تخرج عن نطاق تصوراتنا الحالية، ولابد لـ«مصر» أن تُلقى بشبابها فى أتون البحث العلمى، ولقد أفزعنى كثيراً أثناء اجتماع «المجلس الأعلى للثقافة»- الذى أتشرف بعضويته- أنه تم حجب معظم جوائز الدولة التشجيعية فى موضوعات الثقافة العلمية، وذلك يعنى انصراف أعداد كبيرة من أبنائنا بعيداً عن الدراسات العلمية وأساليب البحث التقنى، التى جعلت المعادلة الرياضية الواحدة مفتاحاً لآفاق واسعة لا فى إطار العلوم وحدها ولكنها امتداد لوجودها، مدركين فى الوقت ذاته أن الجسر بين العلم والمعرفة مفتوح دائماً، ونحن نتطلع فى «مكتبة الإسكندرية» ذات الألفى عام من عمرها منذ أن أنشأ المكتبة الأولى «بطليموس الأول» لكى تصبح مركزاً للتواصل بين المفكرين والعلماء من أجل حوار حضارى مرتبط بها عبر تاريخها الطويل- حاضرة أو غائبة- ولقد حان الوقت الذى تركز فيه الدولة المصرية على الدور الثقافى، الذى تميزت به «مصر» واشتهرت منذ فجر التاريخ، والثقافة ليست ترفاً...
ولكنها ضرورة بمنطق الحياة والتقدم والرغبة الشديدة فى تحديث مظاهر حضارتنا ومقتنياتها الخالدة، وسوف نسعى لاستقبال كل مَن لديه فكر جديد أو علم حديث أو رأى بَنَّاء حتى تصبح «مكتبة الإسكندرية» بحق مؤسسة عالمية على أرض مصرية تضىء «ثغر الإسكندرية»، الذى نرجو لقيمته أن تعود لسابق عصرها وقديم عهدها، فالدنيا تجرى من حولنا والشعوب تلهث وراء المعرفة، ونحن مازلنا مشغولين بقضايا عفا عليها الزمن وسوف يظل الناس مختلفين حولها ما بقيت الحياة، فالتاريخ الطويل عبء على أصحابه، ويجب ألا يكون معوقاً للتقدم مهما كانت الظروف والتحديات، ولنتذكر الآن أننا فى مرحلة مفصلية من تاريخ البشرية، فإما أن نتقدم وإما أن نتراجع، فلا مجال لحالة الثبات، فهى موقف نظرى بحت لا وجود له فى الحقيقة، ولنتذكر جميعاً أن العالم يجرى حولنا ونحن نلوك الماضى، مستغرقين فى الأوهام والأحلام نصنع الأساطير الوهمية ولا ندرك ضرورة الحقائق العلمية!
د. مصطفى الفقى;
جريدة المصري اليوم العدد 4798
تاريخ النشر: 2 أغسطس 2017
رابط المقال: https://www.almasryalyoum.com/news/details/1170841