يرتبط المصريون تاريخيًا ارتباطًا وثيقا بأشقائهم السوريين عبر التاريخ الطويل من خلال الجوار الجغرافى، الذى ربط بين بر مصر وبر الشام حتى بلغ الأمر أن خضعت الدولتان لحكم واحد مرتين إحداهما فى القرن التاسع عشر عندما امتدت سلطة «إبراهيم باشا» ابن «محمد على» لحكم «سوريا» فى الفترة ١٨٣١- ١٨٤٠، والثانية فى عصر «جمال عبدالناصر» عندما قامت دولة الوحدة تحت اسم «الجمهورية العربية المتحدة» فى فبراير ١٩٥٨ حتى سبتمبر ١٩٦١، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فمصر هى التى استقبلت طلائع الشوام الذين لاذوا بها لينعموا بمناخ الحرية فى الكتابة والتمثيل وكل فنون الإبداع، فمصر استقبلت فى القرنين الماضيين كل رموز الفكر والثقافة القادمين من «سوريا» و«لبنان» إلى «الكنانة» ليعملوا فى الصحافة والمسرح ثم السينما، ولم تشعر «مصر» يومًا ما بأن هؤلاء الرواد الشوام غرباء عليها بل أدركت دائمًا أن أبناء «سوريا الكبرى» هم امتداد طبيعى للكيان البشرى المصرى حتى انصهرت عائلات كثيرة من أبناء الشام فى مدن مصر، وتركز وجودهم فى «القاهرة» و«الإسكندرية» ثم «طنطا»، مثل عائلة «الرافعى»، و«المنصورة» التى وُلد فيها الشيخ «بيار الجميل» الذى أنجب رئيسين متتاليين للجمهورية اللبنانية، ومازالت بعض مدن مصر مثل «دمياط» تزخر بأسماء عائلات من أصول شامية استوطنوا «مصر» وانصهروا فى بوتقة شخصيتها الحضارية وأسهموا بعد ذلك فى بناء الصناعة الوطنية، خصوصًا صناعة النسيج، التى برع فيها «الشوام» وظهرت مصانعهم ومتاجرهم فى كثير من المدن المصرية، ولعل القارئ يلاحظ أننى أستخدم تعبيرات «سوريا الكبرى» و«الشام» كمرادفات طبيعية فى الإشارة إلى فضاء جغرافى واحد، فأنا ممن يؤمنون- رغم خلافى مع عنصرية دعاة الهلال الخصيب وغلاة المتحدثين باسم الحزب القومى السورى، وفى مقدمتهم أنطون سعادة الذى جرى إعدامه على ساحل البحر بعد محاكمة صورية لم تدم أكثر من ساعات قليلة، وقد ثأر أتباعه لدمائه باغتيال رياض الصلح رئيس وزراء لبنان الراحل- بالتجانس الواضح فى العنصر البشرى بين أبناء تلك المنطقة فى أنحاء ربوع «الشام الكبير» أو «سوريا الكبرى»، وعندما فرضت القطيعة العربية وجودها على العلاقات المصرية- السورية بعد توقيع اتفاقيات «كامب ديفيد» وظل الشعب السورى على حبه للمصريين، حتى إنه عندما شاركت «مصر» فى «دورة البحر المتوسط» فى «اللاذقية» رغم القطيعة الدبلوماسية بين البلدين، فإن المراقبين الأجانب أصابتهم حالة انبهار من الترحيب والتشجيع اللذين استقبل بهما الشعب السورى وقوفًا يصفقون عند دخول الفريق المصرى إلى ساحة الملعب الرياضى الكبير فى وجود رئيس الجمهورية الراحل «حافظ الأسد»، ولقد كرر رواية هذه القصة الفنان الكوميدى الكبير «دريد لحام» مؤخرًا فى حوار له مع الإعلامى المتميز «وائل الإبراشى»، ولعلنا نلاحظ أن كل فنانى الشام الكبار قد حصلوا على خاتم الاعتراف والشعبية من مصر باستثناء ثلاثة هم «فيروز» و«صباح فخرى» و«دريد لحام»، أما «صباح» و«فايزة أحمد» وإلى حد كبير «وديع الصافى» فضلًا عن «فريد الأطرش» و«أسمهان» فقد تلقوا جميعًا شهادات الاعتماد من المستمع المصرى الفنان بطبيعته، المبدع بفطرته، ولذلك فإن الامتزاج بين البرين الشامى والمصرى هو حقيقة تاريخية لا يجادل فيها أحد، بل لا ينكرها قارئ للتاريخ ومدرك للجغرافيا وواع بسيكولوجية الشعوب فى إطار الأمة الواحدة، وعندما تعرضت «سوريا» لمحنتها الكبرى فى السنوات الأخيرة لاذت كثير من الأسر السورية، خصوصًا من الطبقة المتوسطة وما دونها، بالديار المصرية فلم تستقبلهم «مصر» فى مخيمات كما فعلت دول أخرى ولكن جاءوا إليها كإضافة طبيعية لأبناء الوطن الواحد وتركزوا فى مناطق عدة مثل مدينة «٦ أكتوبر» ومدينة «الرحاب» وغيرهما من أطراف القاهرة الحديثة...
ولقد رأيت بعينى بعض أطفالهم يبيعون أنواعًا من الحلويات لراكبى السيارات فى إشارات المرور وعندما اقترب منى طفل سورى قائلًا: يا عمو هل تشترى هذه الحلوى الشامية؟ بسطت يدى فى جيبى وأخرجت له خمسين جنيهًا، وقلت له: هذه لك لأنك من بلد حبيب ولا حاجة لى بالحلوى، فرفض الفتى الصغير فى إباء وشمم وقال لى: إننى بائع ولست متسولًا، فوجدتنى مضطرًا لقبول الحلوى حتى يقبل النقود، فالإباء هو شيمة لا تبرح أهلها حتى فى أحلك الظروف، ولابد أن أعترف هنا أننى متذوق شديد للفنون الشامية بدءًا من «الأغانى الدمشقية» وصولًا إلى «القدود الحلبية»، ولقد أسعدنى أن وزير التعليم الجديد العالم النابغ الدكتور «طارق شوقى» قد تربى فى «حلب» مع والده الذى كان يعمل هناك، وقد أضحى الوزير هو الآخر متذوقًا لفنون تلك المدينة العظيمة التى كانت معبر الثقافة المتبادلة بين العرب والترك ثم أصبحت ركامًا بفعل الجرائم التى ارتكبت فيها وملأت أرضها بالدماء والأشلاء بدلًا من الموسيقى والطرب وزفرات الشعراء! ولى أصدقاء سوريون تمتد صلتى بهم منذ سنوات الدراسة فى مطلع الستينيات من القرن الماضى حتى الآن، وهم للعهد حافظون ولمصر عاشقون، ولعلى هنا أذكّر بحقيقة هى أن درجة الكتمان الشديد بين الجيشين المصرى والسورى فى حرب عام ١٩٧٣ هى خير دليل على الإخلاص المتبادل بين الشعبين، ولذلك أحسن الرئيس «السيسى» صنعًا عندما اتخذ موقفًا شريفًا مما جرى فى «سوريا» ودافع فقط عن الشعب السورى الشقيق الذى دفع فاتورة غالية من دماء القتلى وآلام الجرحى ومعاناة اللاجئين.. تحية لأبناء الشام بلا تفرقة، وتطلعًا لأن تتعافى «سوريا» لتعود كيانًا عربيًا صلبًا يتواصل مع «مصر» والأشقاء العرب فى «العراق» ودول الخليج، وفى مقدمتها «المملكة العربية السعودية»، و«الأردن» التى تعتبر نقطة الالتقاء بين الجزيرة العربية و«الشام»، و«لبنان» درة المنطقة جمالًا ورقيًا إلى جانب كل الأشقاء فى جنوب وادى النيل وشمال أفريقيا، فلقد اشتقنا كثيرًا إلى إيقاع العروبة الواحدة الذى اختفى منذ سنوات.
د. مصطفي الفقي;
جريدة المصري اليوم العدد 4826
تاريخ النشر: 29 اغسطس 2017
رابط المقال: https://www.almasryalyoum.com/news/details/1184412