كان تقليدًا رائعًا انتهجه «عبدالناصر» لعدة سنوات عندما كرم «طه حسين» و«العقاد» ومنح الوسام الرفيع لـ«توفيق الحكيم»، وأنا أتذكر فى عام ١٩٥٩ أننى كنت الأول على الشهادة الإعدادية فى محافظة «البحيرة» وصدر كتاب يضم اسمى بين أوائل الجمهورية مع منحة شهرية طوال الدراسة الثانوية قيمتها ثلاثة جنيهات، وكان ذلك مبلغًا معقولًا لطفل فى تلك السنوات، وقد مضت «مصر» على ذلك التقليد مثل أمور أخرى بعد نكسة عام ١٩٦٧، وها هو الرئيس «السيسى» يستعيد ذلك التقليد الوطنى الذى تشعر به الأسرة المصرية كما لا تشعر بسواه، ولقد جلست أثناء الحفل الأخير أتأمل كبار العلماء وأبرز الأساتذة وأنبغ الطلاب وهم يصعدون إلى منصة التكريم، بينما يهبط الرئيس إلى القاعة لتكريم عالم كبير تقدم به العمر أو طالبة أقعدتها ظروف الإعاقة، ولم أره راضى النفس مثلما كان فى ذلك اليوم، ولكن هناك مسألة مهمة أرجو أن يتسع صدر المسؤولين فى قطاعات الثقافة والتعليم والبحث العلمى لها، وأعنى بها أولئك الحاصلين على جوائز الدولة، بدءًا من «التشجيعية» مرورًا بـ«التفوق» و«التقديرية» وصولًا إلى «جائزة النيل العليا» من المتخصصين فى الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية، ولقد حصلت شخصيًا على كل تلك الجوائز بما فى ذلك «جائزة النيل» التى كانت تسمى من قبل «جائزة مبارك»، وقد أهديت قيمتها المالية للأغراض التعليمية والصحية متمثلة فى «كلية الاقتصاد» التى تخرجت فيها، ومستشفى الأطفال الذى يعتبر أيقونة للطب المصرى المعاصر، وهى كلها جوائز يمنحها «المجلس الأعلى للثقافة» سنويًا منذ عشرات السنين، ولم تتوقف الجائزتان «التقديرية» و«التشجيعية» إلا عام ١٩٦٧ بسبب ظروف النكسة، ولذلك ظلتا متأخرتين لعام واحد عن الترتيب السنوى للجوائز الأخرى، علمًا بأن جائزتى «التفوق» و«النيل»- مبارك سابقًا- مستحدثتان لا يصل عمرهما إلى عقدين من الزمان،
ورغم كل ذلك لم يتفضل رئيس للدولة باستقبال الحاصلين على جوائز «المجلس الأعلى للثقافة» لسنوات طويلة، نعم.. نحصل على المنحة المالية والميدالية الذهبية والشهادة التقديرية، ولكن شرف مصافحة رئيس الدولة والتكريم العلنى جرى حجبه عن الفائزين بجوائز «المجلس الأعلى للثقافة» منذ أعوام، وعندما كنا نتحدث مع الوزير الفنان «فاروق حسنى» كان يسعى حثيثًا لكى يشمل عيد العلم الجناحين معًا، العلوم والآداب، ولكن وقت الرئيس «مبارك» لم يسمح له، واقترحنا حينذاك أن يسلمها لنا وزير الثقافة فى احتفال عام، ولكن ثورة ٢٥ يناير أجهضت هذا الاقتراح أيضًا، والآن أعبر عن دهشتى، فإذا كان الرئيس «السيسى» قد اقتطع من وقته رغم شواغله وهمومه، وهى الأكثر والأصعب فى تاريخ الرئاسة المصرية، إذا كان قد فعل ذلك فلماذا لم يتم إبلاغه بأن طابورًا آخر من حملة الجوائز من «المجلس الأعلى للثقافة» يظل منتظرًا نفس التكريم الذى حظى به حَمَلة جوائز أكاديمية البحث العلمى؟
فالعلم مظلة كبيرة تشمل العلوم المختلفة، الأدبية والتطبيقية والرياضيات، كما أن كلمة البحث العلمى رغم أنها تشير فى ظاهرها إلى العلوم البحتة إلا أنها أيضًا تقترب من الدراسات الاجتماعية والبحوث الأدبية والعروض الفنية، ولا يوجد خط فاصل بين العلوم والمعارف، فأنا ممن يؤمنون بنظرية «وحدة المعرفة» مهما اختلفت التخصصات وتنوعت الفروع، وإن كنت أتحمس لضرورة التركيز على البحث فى العلوم البحتة، لأن التكنولوجيا هى توظيف العلم فى خدمة الصناعة، وذلك هو المسار الطبيعى للتقدم فى معدلات النمو وتحقيق النهضة الشاملة، ولقد لفت نظرى هذا العام عندما كنا نراجع جوائز الدولة «التشجيعية» فى «المجلس الأعلى للثقافة» أن معظمها قد جرى حجبه، إذ لم يتقدم لها أحد، وذلك يعنى ببساطة أن الثقافة العلمية فى تراجع، وأن إقبال الشباب على البحث العلمى لا يبدو مُرضيًا، وذلك يدق ناقوس خطر على بوابة التعليم المصرى، الذى نأمل له أن يخرج من عثرته وأن ينطلق نحو آفاق حديثة تعيد له أمجاده الماضية عندما كان هو قاطرة الدور المصرى عربيًا وأفريقيًا.
إننى أدرك أن تكريم العلم والعلماء يرتبط بمفهوم النهضة وارتفاع أفق الحكم والنظرة البعيدة للدولة عبر رؤى قادمة، لذلك فإننى أدعو إلى تكريم العلماء فى كل فروع المعرفة بلا تفرقة أو تمييز، فالتقدم يأتى على جبهة عريضة تضم كل المعارف ومختلف العلوم.
مصطفي الفقي;
جريدة المصري اليوم العدد 4833
تاريخ النشر: 5 سبتمبر 2017
رابط المقال: https://www.almasryalyoum.com/news/details/1187217