إنها ليست مثل تلك الدعوة التى أطلقها قطب إخوانى تملقاً للخارج واستقواءً به، فأنا لا أطالب بعودتهم للحصول على ما يزعم بعضهم من ممتلكات تركوها، ولكن الأمر فى دعوتى يختلف، إذ هو أشمل وأعم وأنفع، ولقد استوحيت رؤيتى هذه من إقامتى شبه المنتظمة فى مدينة «الإسكندرية» بحكم عملى، فوجدت أن تلك المدينة- التى كانت «عروس البحر الأبيض المتوسط»، ومستودع حضاراته المتعاقبة، والتى كانت تعج بجاليات أحبت «مصر» وعشقتها من اليونان والطليان والأرمن واليهود والشوام وغيرهم، والتى كانت رائعة- قد تحولت الآن لكى تكون مستقَراً لبعض عناصر التشدد والتطرف، الذين يعادون الحضارة بمفهومها الواسع ولا يقبلون الدين إلا بمفهومه الضيق، وقد شهدت بشكل مباشر التحولات الكبيرة التى طرأت على العقل السكندرى فى مجمله- وهو شريحة من العقل المصرى برمته- وتذكرت تلك الأيام الخوالى من ذلك الزمن الجميل الذى اتضحت بصماته على العمارة والصناعة والتجارة، بل الزراعة أيضاً، لذلك فإننى أعيش على وهم عودة مَن يريد من تلك الجاليات أن يستثمر فى الوطن الثانى له أو لآبائه الذين رحلوا، ولقد خبرت مباشرة من زيارة أخيرة إلى «أثينا» كيف يعشق اليونانيون «مصر» عموماً، و«الإسكندرية» خصوصاً، ويعيشون على حلم زيارتها ويتحدثون عن أحيائها وشوارعها، بل ينطق معظمهم العربية كأهل ذلك الثغر المصرى صاحب التاريخ العريق، ولقد قيل لى إن «شارع فؤاد» فى «الإسكندرية»- وكان اسمه الأصلى «كانوب»- يكاد يكون أقدم شارع مستمر دون انقطاع فى العالم كله، بل لقد قال لى كثير من الأثريين إن تحت كل مبنى فى العاصمة الثانية توجد آثار يونانية ورومانية، ناهيك عما يقبع تحت مياه شواطئ المدينة العريقة من آثار غارقة، من هنا أستمد دعوتى إلى كل مَن يرى فى «مصر» مستقبلاً واعداً، ويريد أن يشارك فى بناء «مصر الحديثة» تحت رايات الوطن، الذى يستوعب بسماحته كل مَن يلوذ به أو يأتى إليه، خصوصاً أن مجالات الاستثمار فى بلد المائة مليون نسمة قد أصبحت مبشرة لكل قادم بمنطق حجم السوق الواسعة وفرص التصنيع المتاحة، ومن هنا تأتى دعوتى لاستقدام الخبرات الأجنبية فى المجالات المختلفة، مفضلاً أبناء الجاليات التى استقرت فى «مصر» سنوات من قبل وخرجت فى ظروف التحول التى أعقبت ثورة يوليو 1952، وليس يعنى ذلك عدواناً على الخبرة المحلية، بل هو تعزيز لها وضمان لنجاحها ودعم لاستمرارها، إذ إن المستثمر الأجنبى لن يأتى إلى بلادنا إلا إذا وجد المستثمر المصرى راضياً مطمئناً متحمساً، إننى أتذكر يوم أن كان «الميكانيكى» أحياناً يونانياً و«الحلاق» إيطالياً وصاحب المكتبة أرمينياً وأحد موظفى البنك يهودياً، ولنتذكر أننا شعب متحضر مازال يحتفظ بتسعة معابد يهودية فى «القاهرة» وكان لديه مثلها فى «الإسكندرية»، فلا يجب أن تأخذنا النعرة المحدودة والنظرة الضيقة لكى نفسر الوطنية تفسيراً عنصرياً أحمق، فالدول المختلفة تستقدم الخبرات من كل مكان، وترحب بها مثلما تفعل «الولايات المتحدة الأمريكية» و«كندا» والدول الأوروبية وغيرها، إننى أرى فى ذلك تنويعاً لطبيعة الحياة العصرية فى «مصر» وضخاً لدماء جديدة فى شرايين الاقتصاد القومى، ولا أرى فيها على الإطلاق مساساً بالوطنية ولا بشعارات يوليو المجيدة.
إننى أكتب هذه السطور، وأعلم أن هناك من المتربصين مَن يفتحون النار على مثل هذه الدعوات دون مناقشتها موضوعياً أو تحليلها علمياً، وهم يتناسون أن وزير المالية المصرى منذ تسعين عاماً فقط كان مصرياً يهودياً.. إنها دعوتى لا أبتغى بها إلا تصحيح المسار والاتجاه بجدية فى طريق الإصلاح الشامل لدولة قوية منيعة لا تخشى أحداً، ولا ترفض خبرة، ولا تتراجع عن رؤية.
د. مصطفي الفقي;
جريدة المصري اليوم العدد 4959
تاريخ النشر: 9 يناير 2018
رابط المقال: https://www.almasryalyoum.com/news/details/1242945