لا جدال فى أن دوافع من خرجوا يوم 25 يناير 2011 رافعين شعار كفالة رغيف الخبز ومطالبين بالحرية ومؤكدين على العدالة الاجتماعية إنما كانوا صادقين فيما فعلوا، وكانت دوافعهم بالتأكيد فى معظمها دوافع وطنية نقية، ويمكن القياس على ذلك فى الدول الأخرى للربيع العربى، ولكن الأمور تغيرت بعد ذلك تغيرًا كبيرًا وأصبحنا أمام حسابات من نوع مختلف، لنجد أن المحصلة النهائية فيها قدر كبير من الخسارة للقوى الوطنية والاقتصاد القومى، على نحو أربك الواقع القائم، ودفع بجماعات لا تعبر عن حقيقة الوطن ولا تعكس ضمير المجتمع ولا تفهم صحيح الدين فإذا بها تتلقف آثار الثورة وتحصد نتائجها وتَئد روح الإصلاح فى مهدها، وإذا طالبنا بكشف حساب لما أطلق عليه الربيع العربى، فسوف نجد أن عوائده لم تكن كما أرادها الشرفاء من أبناء الأقطار العربية، بل لقد انزلقت فى طريق آخر كانت نتائجه كبيرة، حتى بدأ البعض يتشكك فى مسار أحداث ذلك الربيع، بينما توصل البعض الآخر إلى قناعة راسخة لديه بأن ما حدث ليس إلا أمرًا مدبرًا من خارج المنطقة.. وكأنما كان الربيع العربى مؤامرة كبرى جرى إحكامها لتقويض شعوب المنطقة وتمزيق أوصالها وتزكية الحروب الأهلية فيها مع تشجيع موجات الإرهاب التى تنطلق إليها من الأطراف فى محاولة مستميتة للوصول إلى القلب، ولا يخفى على أحد أن «مصر» هى بحق (الجائزة الكبرى) التى يتطلع إليها الطامعون فى المنطقة، والحاقدون على العروبة والإسلام فى وقت واحد، لأن «مصر» بلد كبير وعريق، فضلًا عن أنه عصىّ على السقوط، ولعلّى أطرح هنا الملاحظات الثلاث التالية:
أولًا: لست ممن يستسلمون لنظرية المؤامرة على إطلاقها، بل إننى ممن يظنون أن المؤامرة موجودة ولكن لا يجب التعويل عليها أو الانطلاق منها لدعم نظرية «التفسير التآمرى للتاريخ»، خصوصًا أن الارتكان إلى ذلك التفسير يشل الإرادة ويعطى انطباعًا بالاستسلام للقدر، وتبرير كل ما يجرى بأنه مؤامرة علينا ولكننى فى الوقت ذاته لا أعفى الطرح الشهير الذى تقدمت به وزيرة خارجية الولايات المتحدة الامريكية «كونداليزا رايز» تحت اسم «الفوضى الخلاقة»، إذ إن الأمر الذى لا شك فيه هو أن الهدف من الربيع العربى لدى بعض الدوائر الأجنبية كان هو إعادة ترتيب الأوضاع فى المنطقة وفقًا لمصالح القوى الخارجية صاحبة المصلحة فى ذلك.
ثانيًا: لقد طرح المفاوض الأمريكى الداهية «هنرى كيسنجر» منذ عدة عقود نظريته الشهيرة تحت اسم «الغموض البنّاء»، ومؤداها ضرورة ترك مساحة رمادية بين وجهتى النظر فى الصراع السياسى، على اعتبار أن عامل الزمن يتكفل غالبًا بتقريب وجهتى النظر وإسقاط عدد من المحاذير التى كانت مطروحة فى البداية، ولقد كانت صياغة القرار البريطانى الخاص بأزمة الشرق الأوسط رقم 242 عام 1967 هو نموذج لذلك النوع من التفكير بحيث يترك القرار لكل طرف أن يفسره على النحو الذى يراه، وذلك فى النهاية هو الغموض البناء.
ثالثًا: إن ما جرى فى السنوات الأخيرة فى منطقة الشرق الأوسط كان عدوانًا مباشرًا على كيان الدولة الوطنية فى المنطقة ومحاولة لتقويض دعائمها، حتى سقط بعضها وترنح البعض الآخر وبقيت دول أخرى عصيّة على ذلك مثلما هو الأمر بالنسبة لمصر وتونس، ونحن نظن أن أحداث الربيع العربى كانت ردًا تاريخيًا على النظام الإقليمى الذى صنعته اتفاقيات «سايكس- بيكو» منذ قرن كامل، ولا أزعم أن الأمر قد اكتمل، أو أن فصول المسرحية قد انتهت، فالأمر يحتاج إلى تأمل المشهد بعد سنوات قادمة، خصوصًا أن الإرهاب الذى يضرب المنطقة العربية ينشر غلالة كثيفة من ضباب، يزيد الأمر تعقيدًا ويحجب الرؤية أمام صناع القرار.
إننا نظن أن (الربيع العربى فى الميزان) سوف يختلف حوله الكثيرون، ولكن الأمر الذى لا مراء فيه هو أن ذلك الربيع ليس نعمة كاملة أو نقمة شاملة، لأنه حدث ضخم يستحيل معه التنبؤ بشكل المنطقة فى العقود القادمة، ولكنها بالتأكيد لن تبقى كما كانت وسوف تتحول بشكل جذرى قد يكون فى صالح شعوبها أحيانًا، كما قد يكون تطويرًا لنظم الحكم فيها أحيانًا أخرى.. دعنا نتأمل وننتظر!
د. مصطفي الفقي;
جريدة المصري اليوم العدد 4994
تاريخ النشر: 13 فبراير 2018
رابط المقال: https://www.almasryalyoum.com/news/details/1258727