يبدو واضحًا أن حالة من الفراغ السياسى قد أصبحت حقيقة يدركها كل منشغل بالشأن العام أو مهتم بالحياة السياسية، ذلك أن العزوف عن العمل السياسى هو ظاهرة تاريخية فى «مصر»، ولكنه يبدو الآن حقيقة مؤكدة، خصوصًا بين الشباب الذى آثر الابتعاد عن المسرح السياسى فانكمش حجم المشاركة وانصرف كثير من التجمعات السياسية نحو الاعتدال الطوعى للعمل السياسى الرسمى، وأصبح من المتعين علينا أن نغوص فى أعماق هذه الظاهرة التى أصبحت حقيقة، ولنكتشف ما يقف وراءها، والأمر فى رأينا إنما يعود إلى عدد من العوامل، لعل أهمها:
أولًا: إن المنظومة الحزبية فى «مصر» ضعيفة تاريخيًا، فالمصرى عاشق للسلطة المركزية ولا يجازف كثيرًا بالانتماء الحزبى الذى يراه نشاطًا تقليديًا أو عملًا ترفيًا، ويدرك فى أعماقه أن تأثير الأحزاب محدود، سواء فى الساحة البرلمانية أو على المسرح السياسى، وتلك خبرة تاريخية عرفناها من دراسة المراحل المختلفة فى التاريخ السياسى المصرى، إذ إنه باستثناء «حزب الوفد» (1919- 1952) لم تشهد «مصر» حزبًا سياسيًا تكوّن بتلقائية، ويكفى أن نتذكر أن زملاءنا من الطلاب العرب كانوا يتندرون علينا فى المرحلة الجامعية قائلين: إن لدى «مصر» حزبين سياسيين كبيرين فقط، هما «الأهلى» و«الزمالك»!
ثانيًا: إن الأصل فى العمل الحزبى أنه المؤهل لتربية الكوادر السياسية، وحين يتوقف الحزب عن هذه المهمة الأساسية فإنه يسهم إسهامًا مباشرًا فى خلق الفراغ السياسى ويبدو وكأنه أقرب إلى جمعية أهلية منه إلى حزب سياسى حقيقى، إذ إن الفيصل بين الحزب السياسى وغيره من أشكال التجمعات وأنواع التكتلات هو أن الحزب السياسى يهدف إلى الوصول إلى السلطة ويسعى إليها، فهى لديه غاية فى كل الأحوال وكل الظروف، وما هو غير ذلك لا يمت للحزب السياسى بمفهومه العلمى الدقيق بأى صلة، فقد كنا نقول دائمًا إن الأحزاب السياسية هى مدارس لتربية الكوادر ومراكز للتدريب السياسى، ولكن الأمر لم يعد كذلك على الإطلاق وأصبحت الأحزاب مجرد هياكل تنظيمية علوية يتصدرها بعض الأسماء التى يفتقر معظمها إلى التاريخ السياسى أو النشاط الحزبى من قبل، لذلك أصبحنا بحق أمام ما أطلقنا عليه (أحزاباً كرتونية) وليست أحزاباً سياسية، فلقد شهدت بنفسى مرحلة من مراحل التربية السياسية والتصعيد الحزبى داخل حزب المحافظين البريطانى عام 1975 عندما تقدمت «مارجريت تاتشر» من الصفوف الخلفية للحزب لتتصدر زعامته فى المؤتمر السنوى فى مدينة «بلاك بول»، وكان ذلك وفقًا لأسس ومعايير اتفقت عليها قيادات الحزب، ولم يكن الأمر اختيارًا عشوائيًا أو مجرد ملء لفراغ سياسى، فالتصعيد يتم وفقًا لمعايير واضحة وحسابات دقيقة، ليأتى زعيم الحزب متمرسًا ونشطًا وواعيًا ومدركًا مسؤولياته، مستخدمًا صلاحياته.
ثالثًا: إن الإجهاد السياسى- إذا جاز التعبير- الذى يأتى فى أعقاب الثورات يؤدى بالضرورة إلى حالة من الركود فى النشاط العام كتلك التى نشهدها حاليًا، قد أرهقت كثيرا من العناصر نفسها فى أنشطة ثورية تحت اسم (الناشطون السياسيون)، ولكن فى هذه الأحداث المتتالية والتغييرات الكبيرة، فإن حالة من الإرهاق السياسى قد أبعدت عددًا كبيرًا من القيادات، خصوصًا الشابة منهم، حتى توهم بعضهم أنه قد أدى دوره وانتهى وأن عليه أن يرقب المشهد دون أن يكون طرفًا فاعلًا فيه، خصوصًا أن نظام الحكم قد أصبح يتكفل بالبناء والتعمير وضرب الفساد ومكافحة الإرهاب، فتصور كثير من النشطاء أن الدولة تقوم نيابة عنهم بما كانوا يريدون، وكأن أهدافهم قد تحققت ولم يعد هناك مبرر لمواصلة العمل السياسى.
إننى أريد أن أقول بوضوح وصراحة إن حالة الفراغ السياسى التى تحيط بنا بعد ثورتين كبيرتين هى أمر متوقع، خصوصًا أن الخلفية التاريخية للعمل الحزبى فى «مصر» تساعد هى الأخرى على ذلك.. من هنا فإننا ندعو إلى الإسراع فى البدء بعملية تربية الكوادر على المستويات الحكومية والحزبية، لأن «مصر» بلد كبير وليست عقيمًا، كما أنها قادرة على الدفع بأجيال جديدة فى كل الحالات، ولا يتصور البعض أن الفراغ السياسى ميزة، بل هو فى رأينا حالة مؤقتة يجب الخروج منها بأسرع وقت.
د. مصطفى الفقى;
جريدة المصري اليوم العدد 5008
تاريخ النشر: 27 فبراير 2018
رابط المقال: https://www.almasryalyoum.com/news/details/1264550