غياب الكيمياء
تتحدَّد نوعيَّة العلاقة بين البشر بدرجة التَّفاعل الكيميائى بين شخصيَّتين أو أكثر، ولقد لاحظتُ من خلال عملى فى مؤسسة الرِّئاسة ورؤيتى لعدد كبير من الملوك والرُّؤساء أن الكيمياء الشَّخصيَّة تلعب دورًا أساسيًّا فى إنجاح المُباحثات وتحسين العلاقات، بينما قد يؤدى غياب تلك الكيمياء إلى شىء مختلف تمامًا، فقد كان المستشار الألمانى «هيلموت شميت» يُقدِّر الرَّئيس «السادات» كثيرًا، فيراه واحدًا من أبرز زعماء القرن العشرين، وبالمناسبة فالشَّعبان الألمانى والمصرى يحتفلان هذا العام بمئوية الزَّعيمين كل منهما على حدة، كما أن الكيمياء الشخصية بين الرئيس الأسبق «مبارك» وكل من الرئيسين الفرنسيين «فرنسوا ميتران» و«جاك شيراك» كانت متميزة، وأسهمت بقدرٍ كبيرٍ فى توثيق العلاقة سياسيًّا واقتصاديًّا بين «القاهرة» و«باريس» فى فترة معينة، بينما غابت الكيمياء تمامًا من علاقة الرئيس «مبارك» والزعيم السودانى «صادق المهدى» لأسباب تاريخيَّة، واختلاف بين ثقافة الطيار الجسور فى جانب وثقافة الزعيم الطائفى فى جانب آخر، ولقد لاحظتُ أن الرَّئيس الأسبق لم يستحسن طريقة التَّفكير التى عبَّر بها زعيم حزب الأمة السُّودانى فى استسهال شديد للحلول واختصار للمشكلات، فرآه مبارك مُمعنًا فى النظرية بعيدًا عن الواقع، ولستُ أنسى أيضًا فى هذه المناسبة الكيمياء المفقودة بين الرئيس الراحل «السادات» ورئيسة وزراء الهند السيدة «أنديرا غاندى»، التى لم تُكلِّف نفسها فَتْح رسالة مكتوبة من الرَّئيس المصرى الراحل حملها إليها الدكتور بطرس بطرس غالى -رحمه الله- والذى أبدى لنا دهشة من أنها وضعتها جانبًا وتحدَّثت فى موضوعات أخرى تتصل بعلاقتها بأسرة الرئيس الراحل «عبدالناصر» دون أن تعطى الرسالة اهتمامًا ولا حتى بقراءتها وإدراك مضمونها، وقد لاحظتُ أن التفاعل الكيميائى الإنسانى كان متوفرًا فى علاقة الرئيس الأسبق «مبارك» بزعماء دول الخليج ربما باستثناء واحد هو «دولة قطر»، كذلك فإن الكيمياء البشرية بين عاهل الأردن الراحل «الحسين بن طلال» والشعب المصرى كانت قويَّة لأنه درس فى «كلية فيكتوريا» بـ«الإسكندرية»، كما كان قريبًا من الرئيسين «السادات» و«مبارك»، ولم تتمكن الكيمياء الشخصية من إحداث تواصل فكرى بين الرئيسين الراحلين المصرى «جمال عبدالناصر» والتونسى «الحبيب بورقيبة»، وانتقد كلٌّ منهما نهج الآخر فكريًّا وسياسيًّا، ولاشك أن الراحل «معمر القذافى» كان نموذجًا للصدام (الكيماوى) المستمر مع الآخرين، إلى أن تمكن الرئيس الأسبق «مبارك» من ترويضه، ومازلتُ أتذكَّر أن العقيد قال للرئيس «مبارك» إنه سوف يزور مصر دون القاهرة، لأن فيها سفارة إسرائيل، فردَّ عليه الرئيس المصرى: «تفعل ما تشاء، لك ما تريد»، ثم عاد «القذافى» بعد عدة أشهر ليقول له إنه يفضل أن يأتى إلى «القاهرة» فقال له: «لماذا الآن وسفارة إسرائيل مازالت موجودة؟!»، فردَّ «القذافى»: «ولكن فى القاهرة قبر عبدالناصر!»، ولا ننسى أن الكيمياء بين «عبدالناصر» و«نهرو» و«تيتو» كانت فى حالة توهج، كما أن الكيمياء بين «السادات» و«كرايسكى» مستشار النمسا الأسبق، بالإضافة إلى بعض مستشارى ألمانيا وصولاً إلى الدكتاتور الرومانى «تشاوشيسكو»، كانت علاقة فيها تفاعل واضح وأسهمت بشكل أو بآخر فى توجيه الرئيس «السادات» نحو قراره بزيارة «القدس» عام 1977، ولقد لاحظت أيضًا أن التفاعل بين الكيمياء الشخصية للزعماء لا يقف عند حدود العلاقات الدولية بل قد يكون فى الداخل أيضًا، وأشهد أن الكيمياء بين الرئيس «مبارك» واثنين من رؤساء الحكومات فى عصره كانت ذات خصوصية من الود والتقدير، وأعنى بهما الراحلين «فؤاد محيى الدين» و«عاطف صدقى»، كما غاب الانسجام الكيميائى بينه وبين الراحل «د.على لطفى» رئيس وزرائه، فضلاً عن توتر علاقته بالمشير «أبوغزالة» فى فترة معينة، ولماذا نذهب بعيدًا لنغوص فى تفاصيل فرعية؟ دعنا نتذكر أن شكل «الشرق الأوسط» كان يمكن أن يكون مختلفًا لو أن النفور الكيميائى بين الرئيس «عبدالناصر» ووزير الخارجية الأمريكى «جون فوستر دالاس» لم يحدث، وجاء بديلاً عنه تفاهم وانسجام، ربما كان ذلك يؤدى إلى الاقتراب من «الولايات المتحدة الأمريكية» والابتعاد عن الكتلة الشرقية بقيادة «الاتحاد السوفيتى» السابق، وعدم اتجاه البنك الدولى ومديره الأمريكى إلى سحب عرض تمويله لـ«السد العالى» على نحو أدى إلى تأميم «القناة» ووقوع «حرب السويس» عام 1956، وما تبع ذلك من تداعيات معروفة، فالمهم هو أن نؤكد أن التاريخ السياسى ليس فقط اتفاقيات جامدة ومفاوضات محسوبة أو محادثات عابرة، ولكنه أيضًا تفاعل كيميائى بين أطراف تقع فى أيديهم مصائر الأمم وسلامة الدول ورفاهية الشعوب.
مجلة 7 ايام
6 سبتمبر 2018
https://www.7-ayam.com/%d8%ba%d9%8a%d8%a7%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d9%83%d9%8a%d9%85%d9%8a%d8%a7%d8%a1/