تمرُّ أمامنا شرائطُ الذِّكريات، بدءًا من سنوات الطُّفولة، مرورًا بعزِّ الشَّباب، وصولاً إلى مشارف الشَّيخوخة، ونكتشف دائمًا أن رؤيتنا للأمور قد تغيَّرت، وأن أساليب تفكيرنا قد تبدَّلت، وتظلُّ الذَّاكرة مُرتبطة بشخوص مُعيَّنة نتذكَّرها من وقتٍ لآخر، فأنا مازلتُ أتذكَّر مواقف لبعض زملائى فى الفصل، حتى وأنا فى المرحلة الابتدائية، وقدكُنَّا أطفالاً فى الصف الثَّالث لا تتجاوز أعمارنا العاشرة، عندما اشتكى زميلٌ خفيفُ الظِّل للمُدرِّس من أن زميلاً لنا قد سبَّه بالإشارة إلى أُمِّه، فقال له المُدرِّس: إن الشتيمة لا تلتصق بالشخص، فلا تهتم بما قاله، فردَّ عليه الطفل بتلقائية وسُرعة شديدة مُوجِّهًا إلى المدرس نفس السُّباب الذى نعتهُ به زميلُه، فضجَّ الفصل بالضَّحك، وكانت لحظة آمنتُ فيها بأن شجاعة الجاهل هى أخطرُ أنواع الشَّجاعة، فالطِّفل الذى سبَّ المُدرِّس بما سبَّه به زميلُه كان ردُّه تلقائيًّا وشُجاعًا على تفريط المدرس فى حقِّه واستخفافه بما لقيه من إهانة زميله.
وقد كُنَّا نسكن فى إحدى عمارات «مدينة دمنهور» فى الطابق الثالث، وكان يسكن فى الطابق الثانى زميل لى فى المدرسة، ولكن فى فصل مُختلف، ولا يعرف أحدُنا الآخر، وذات مساءٍ التقينا على سُلَّم العمارة فقال لى: أنت زميلٌ فى المدرسة، فقُلتُ له: نعم، فردَّ: إن ترتيبى مُتقدِّم جدًّا، وأشار لى بإصبعه أنه الثَّالث على فصله، وكان يقول ذلك بزهوٍ وافتخارٍ؛ لأنه لا يعرفنى جيِّدًا، ثم سألنى: ما ترتيبُك؟ فقُلتُ له: الأوَّل، وظنَّنى أمزح إلى أن تأكَّد من ذلك فى المدرسة فى اليوم التَّالى، واستمرَّت علاقتى به منذ عام 1956 حتى الآن، ونحن نتذكَّر هذه القصَّة، خصوصًا أنه زوج شقيقتى منذ أكثر من خمسة وأربعين عامًا، هذه هى الدنيا، وتلك بعض مُفارقاتها، فقد كُنتُ أسير مع بعض أصدقائى فى «ميدان الساعة» بـ«مدينة دمنهور» نتطلَّع إلى اللافتات للأطبَّاء والمُحامين بعمارة كبيرة تتوسَّط الميدان، وقرأنا اسم «فتحى الشرقاوى» المُحامى، فقال بعضنا: ماذا يربح المُحامى وهو يتقاضى جنيهات قليلة فى أىِّ قضية؟! وطالعتنا صُحُف اليوم التَّالى باسم «فتحى الشرقاوى» المُحامى فى «مدينة دمنهور» وزيرًا للعدل باختيار شخصى من الرئيس الراحل «جمال عبدالناصر»، وقُلنا يومها: «ملكُ المُلوك إذا وهب لا تسألنَّ عن السَّبب»، وقد كان «فتحى الشرقاوى» واحدًا من ألمع المُتحدِّثين، وأبرع المُحامين، وهو ينتمى إلى عائلةٍ معروفةٍ تضمُّ بين أسماء أبنائها الرَّاحلين «أدهم الشرقاوى» وأسطورته المعروفة.
وذات مساءٍ بعد ذلك بعشرات السنين كُنتُ أجلسُ أمام رئيس الدولة الذى أعمل سكرتيرًا له، ودقَّ جرسُ التِّليفون المُباشر أمامه ونحن فى الاستراحة الصَّيفية، فردَّ الرئيس على شخصٍ لا أعرفه، وامتدَّ الحديث والرئيس يسأله ماذا يُريد وفيما يعمل ومتى تخرَّج فى الجامعة، وطالت المُكالمة لعدَّة دقائق وأنا مُندهش، ثم أغلق الرئيس التِّليفون قائلاً: يا لتعاسته! لقد كُنتُ أنتوى أن أجعل منه نموذجًا للشَّباب المصرى، وبدأ يقصُّ علىَّ تفاصيل الحوار، حيث سأل الرئيسُ الشَّابَّ: ماذا تُريد؟ فقال إنه يُريد فندق «سان ستيفانو»، ولكنَّ الرَّقم خطأ، فواصل الرئيس الحديث معه فى فُضول وحُبٍّ: لماذا تُريد الفندق؟ فقال له: إننى أُريد أن أحجز حجرةً لشريكى من «إيطاليا» الذى أعمل معه فى شركةٍ صغيرةٍ لإنتاج «السيراميك» منذ تخرُّجى فى كُليَّة الهندسة قسم العمارة عام 1981، فأعجب ذلك الرئيس كثيرًا؛ إذ يرى شابًّا لا ينتظر وظيفةً حكوميةً، ولكنه يضرب فى الأرض سعيًا وراء مُستقبل أفضل، وفجأةً قال له الشَّاب: إنك قد سألتنى أسئلةً كثيرةً، وأجبتُكَ وعرفتَ عنِّى تقريبًا كُلَّ شىءٍ فمن أنت إذن؟ فقال له الرئيس: هل تُصدِّقنى إذا قُلتُ لك؟ فقال الشَّاب: نعم، فقال له: «أنا حسنى مبارك»، فانفعل الشَّابُّ بشدَّة، وقال له: «هذا هزارٌ سخيفٌ، فقد أضعتَ وقتى»، وأغلق التِّليفون، وكان الرئيس يُريد أن يُحاوره أمام الشَّباب المصرى كنموذج للمُبادرة الفرديَّة والاعتماد على النَّفس، ولكنه سوءُ الحظِّ، فهو ملكُ المُلوك إذا سَلَب لا تسألنَّ أيضًا عن السَّبب!
إنها الحياة التى نرى فيها نماذجَ وأمثلةً بحيث تبقى لقطات فى الذاكرة لا تبرحها أبدًا، بل لعلَّها تُعاودُ الإلحاح عليها كُلَّما تقدَّم العُمر بصاحبه.. إنها مرايا وعدسات للحياة فى كُلِّ زمانٍ ومكانٍ.
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام العدد 288
تاريخ النشر:24 يوليو 2018
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d9%85%d8%b1%d8%a7%d9%8a%d8%a7-%d9%88%d8%b9%d8%af%d8%b3%d8%a7%d8%aa/