تحتفظ ذاكرة كلٍ منا بأسماء شخصيات أثرت فينا، وغالبًا ما يكون هؤلاء من المحيط المدرسى أو الجامعى، ومازلت أتذكر حتى الآن عددًا كبيرًا من أساتذتى فى المدرسة وفى الجامعة وأشعر نحوهم بامتنان شديد، وأخص الراحلين منهم بالدعاء الطيب، وأفكر فى الأحياء بتمنيات الصحة وطول العمر، إننى أتذكر أستاذ الفيزياء «سيد البجاوى» فى مدرسة دمنهور الثانوية، وقد كان عالمًا حقيقيًا وإنسانًا مخلصًا فى عمله منظمًا فى تدريسه، فترك لدينا أثرًا كبيرًا، حتى إننى دخلت شعبة الفيزياء فى القسم العلمى حبًا فى ذلك الأستاذ واحترامًا له، وعندما هاتفنى منذ سنوات فى عمره المتقدم شعرت أن جزءًا غاليًا من تاريخى يتحدث إلى، وأعطيته من الاهتمام والإكبار ما يستحق، وأتذكر مدرس الرياضيات «عوض حنا» الذى كان نموذجًا رائعًا فى الإخلاص والتفانى والحرص على تلاميذه بغير استثناء ودون تفرقة، لقد كان ذلك فى زمن جميل يجرى فيه تحديد قيمة الطالب بما يعلم دون النظر لأى انتماءات أو معتقدات أو عائلات، إننى أذكر أن الأستاذ «عوض حنا» قد علمنى كثيرًا وأنا أتابع شرحه وألتهم أفكاره، ولقد تعلمت منه فى سن مبكرة كيفية استبعاد الاحتمالات المختلفة فى المسألة الرياضية الواحدة للوصول إلى الفرضية الصحيحة التى تؤدى إلى النتيجة السليمة، فقد كان يشرح تمارين الهندسة كما لو كان يلقى محاضرة فى علم المنطق أو يقدم أطروحة فى فقه الأولويات، أطال الله فى عمره حيًا وعليه رحمته ميتًا، ولا أنسى أستاذ اللغة العربية «عبدالعظيم عبداللاه» الذى طلب منا أن نكتب موضوعًا عن فصل الربيع، الذى كان قد بدأ يتسلل، مبددًا برودة الشتاء ولما كنت أحصل – أحيانًا - فى اللغة العربية على الدرجة النهائية، فقد كتب لى الأستاذ «عبداللاه» تعليقًا مع الدرجة فى موضوع التعبير عبارة لا أنساها (إن فى عباراتك جمال يفوق جمال الربيع، بارك الله فيك يا بنى)، أما المرحلة الجامعية فهى زاخرة بالأسماء التى تأثرت بها وتعلمت منها ونقلت عنها، فقد كان «بطرس غالى» قيمة متألقة أرى فيه نموذج أستاذ الجامعة، صاحب الشخصية الدولية، متعدد القدرات سياسيًا وأكاديميًا ودبلوماسيًا، وكان يستهوينى فيه أسلوبه فى (قاعة البحث)، حيث يدفع بأسئلة تحريضية تساعد تلاميذه على الدخول فى مجالات جديدة ومبادرات مختلفة تعطى المادة العلمية درجة عالية من الحيوية وتخرج بها عن الأطر التقليدية فى التدريس الأكاديمى الجاد، أما أستاذى الراحل د. «حامد ربيع» فحدث ولا حرج، فهو أعلم من عرفت وأعمق من شهدت وعالم العلماء، الذى كنا نسميه الدكاترة «حامد ربيع» فقد جمع بين الثقافتين الحضارة الغربية الأوروبية فى جانب والحضارة العربية الإسلامية فى جانب آخر مع تميز فيهما وقدرة على فتح آفاق جديدة للمعرفة، فضلًا عن منهاجية رائعة تؤدى إلى جدولة الذهن وترتيب الأفكار وتنسيق الأحداث، لقد كانت بعض محاضراته وهو يمليها تبدو لى وكأنها قطع موسيقية للعلم الغزير والمعلومات الجديدة والمعرفة العميقة، لقد فقد حياته فى النهاية بطريقة غامضة يرى البعض أن مخابرات «صدام حسين» الذى كان د. «ربيع» مستشارًا له فى مرحلة معينة هى المسؤولة عن اغتياله مسمومًا، بينما يرى بعض آخر أن الموساد الإسرائيلى كان يستنكر عليه كتاباته العنيفة التى كانت تبدو ندًا قويًا لمؤرخ صهيونى مثل «برنارد لويس»، وهما الآن معًا فى رحاب الله أعدل الحاكمين، فإذا تحدثت عن د. «عبدالملك عودة» فهو الأب الروحى للجميع بما كان يتمتع به من دفء فى العلاقات مع الآخرين ورعاية لمصالح طلابه فى حنان أبوى صادق وبنية صادقة، وهو الذى تسلم ذات يوم جثمان أخيه «عبدالقادر عودة» بعد إعدامه، ومع ذلك ظل على نزعته الوطنية اليسارية دون انحراف فى القصد أو ابتعاد عن الهدف، أما د. «رفعت المحجوب»، صاحب الشخصية المؤثرة واللغة العربية الرفيعة والقدرة على صياغة المذاهب الاقتصادية المختلفة، فقد كان بالنسبة لى هو (البطل) الذى أتطلع إليه وأحلم بالمضى على طريقه، حتى إننى استبدلت نظاراتى الطبية بالنموذج الذى كان يرتديه «رفعت المحجوب»، وعندما فقد حياته برصاصات غادرة، لم يكن هو المقصود بها، شعرت بحزن عليه ولوعة لرحيله، وأدركت أن الوطن قد فقد أحد رجال الدولة البارزين.. رحم الله الجميع.
د. مصطفي الفقي;
جريدة المصري اليوم العدد 5106
تاريخ النشر: 6 يونيو 2018
رابط المقال: https://www.almasryalyoum.com/news/details/1298040