شاع مُصطلح «دبلوماسيَّة الرياضة» فى القاموس السِّياسى خلال العقود الخمسة الأخيرة، وتحديدًا منذ مُباراة تنس الطَّاولة الشَّهيرة بين «الولايات المتحدة الأمريكيَّة» و«الصِّين الشَّعبيَّة»، كما كانت تُسمَّى حينذاك، ثم تعاقبت علينا الآثار -الإيجابيَّة والسَّلبيَّة- للرِّياضة فى العلاقات بين الدول، وتُعدُّ مباراة مصر والجزائر فى كرة القدم عام 2009، والتى جرت وقائعها فى العاصمة السُّودانيَّة «الخرطوم»، وما نجم عنها من شَدٍّ وجَذْبٍ بين الدَّولتين العربيتين الأفريقيتين الإسلاميتين من حوارٍ حادٍّ ومواجهةٍ خَشِنَةٍ، نموذجًا لذلك، حتى كادت العلاقات بين القاهرة والجزائر تتأثر إلى أن ارتفعتأصواتٌ عاقلةٌ تدعو إلى التَّمسُّك بالرُّوح الرِّياضيَّة الحقيقيَّة والابتعاد عن تَأْجيج الصِّراعات بين الفائز والخاسر، ولقد أدركتُ دائمًا أن الإنسان الرياضى أَقْدرُ على تفهُّم الأمور ومُواجهة المُشكلات، فضلاً عن السَّلامة البدنيَّة والصَّفاء الذِّهنى.
وقد شاءت ظروف عملى فى مُؤسَّسة الرِّئاسة أن أذهب عصر كُلِّ يومٍ إلى ما كُنَّا نسميه «المركز الرِّياضى» داخل مبنى القُوَّات الجويَّة، حيث يأتى الرَّئيس الأسبق «مبارك» ومعه مجموعة من تلاميذه الذين أصبحوا كبار الضُّبَّاط فى القُوَّات الجويَّة والقُوَّات المُسلَّحة عمومًا، ولم تكن المُناسبة اليوميَّةرياضيَّةً بَحْتة، بل كان فيها جلسات حوار وتَسَامُر يشارك فيها الرَّئيس، ويبدو إنسانًا عاديًّا أمامنا، فمكانته محفوظةٌ ووقاره موجودٌ، ولكن الحديث إليه سهلٌ وميسورٌ، حتى أننى قلتُ له ذات مرَّة: «إننى أعمل مع رئيسين؛ أحدهما فى المكتب، والثَّانى فى المركز الرِّياضى، والفارق بينهما كبير!»، فكان يقول لى: «إنك مواطن مدنى لا تعرف الحياة العسكريَّة التى تقوم على الجديَّة والفصل بين العلاقة الشَّخصيَّة والمواقف الموضوعيَّة أثناء العمل»، مضيفًا: «إن القائد يجلس مع ضابط لديه يتسامران فى المساء، وقد يُوقِّع عليه عقوبة فى الصباح إذا خالف التَّقاليد العسكريَّة»، وتابع الرَّئيس: «إن مشكلة شبكة العلاقات المدنية أنها تخلط بشدة بين ما هو موضوعى وما هو شخصى، فيختلط الحَابِل بالنَّابِل، ولا تبدو هناك خطوط حمراء للعلاقات المطلوبة والتَّقاليد المَرْعِيَّة».
وأتذكَّر أن الرَّئيس كان يلعب يوميًّا مباراة إسكواش، وقد طلب منى ذات مرَّة وهو يلعب مع ضيف كويتى كبير أن أقوم بالتَّحكيم من الشُّرفة، فكنتُ أقوم بذلك وأجامل الرَّئيس كما نفعل جميعًا، وعندما حسبتُ على الضَّيف أحد الأخطاء، وكان واضحًا أن ذلك مُجاملة، نظر إلىَّ من أسفل وقال: «يا أستاذ سوف تذهب إلى جهنم فأنت غير عادل!»، فقلتُ له: «أتريد أن تهزم رئيس مصر! هذا أمر صعب علينا»، وضحكنا جميعًا، ولكن الرَّئيس -وهذه شهادة حق- كان جادًّا فى مُمارسته الرياضة وحريصًا على قواعدها وأصولها بحماس يُحسد عليه مَنْ هم فى عمره حينذاك، وكان الطَّعام المُفضَّل للجميع هو حَبَّة فاكهة من اليوسفى وعلبة زبادى، فالرَّئيس مبارك لم يكن مُسرفًا فى طعامه أو حتى مع ضيوفه، فضلاً عن أنه كان يرى أن كثرة الطَّعام هى زيادة فى الوزن وعبء على الظَّهر والرُّكبتين، وأتذكَّر أن الملك الحسن الثانى قد أوفد إليه طبيبه الفرنسى ليجرى للرئيس فَحْصًا طبيًّا مُجاملةً من صديقه الملك المغربى، وطلب الرَّئيس يومها أن يفحص الطَّبيب العالمى الزَّائر اثنين من مساعديه، هما الرَّاحل الدكتور أسامة الباز وأنا، وقد نصحنا الطبيب بأن يحاول كُلُّ إنسان أن يجعل قلبه يضخ بقوة لمدة عشرين دقيقة على الأقل يوميًّا بممارسة رياضة مُنشِّطة للقلب، وقد كان الرَّئيس يمنع تمامًا الحديث فى الموضوعات السِّياسية حتى لا يكون للوجود ضمن جلسات المركز الرياضى ما يُمثِّل ميزةً لأحد أو فضلاً له، فالرَّئيس فى ذلك صارمٌ تمامًا، وأذكر أننى نقلتُ إليه ذات مرَّة رسالةً شخصيَّةً من أحد الوزراء، فوبَّخنى قائلاً: «ليس هنا مكان ذلك بل مكانه فى المكتب وأثناء العمل»، ولأننى لم أكن يومًا ما رياضيًا أو مُهتمًّا بالرِّياضة، فإن سنوات عملى مع الرَّئيس مبارك والوجود فى المركز الرِّياضى قد علمنى كثيرًا وأفادنى فى تكوينى النَّفسى والعقلى، وأصبحتُ حاليًا مُهتمًّا بالرِّياضة، خصوصًا كرة القدم، عندما يتعلَّق الأمر بمباراة للمنتخب تحديدًا، حيث يكتسب الأمر لدىَّ بُعدًا وطنيًّا نتيجة إيمانى بأن الرياضة واحدة من ميادين التَّميُّز التى تنعكس على الحياة السِّياسيَّة والرُّوح العامَّة للشُّعوب.
مجلة 7 ايام
16 اغسطس 2018
https://www.7-ayam.com/%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%8a%d8%a7%d8%b3%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%b1%d9%8a%d8%a7%d8%b6%d8%a9/