إن من يتأمل المشهد السياسي المصري في هذه المرحلة سوف يجد نفسه مدفوعا للتفكير في المستقبل وارتياد دروبه ومنعطفاته بدلا من الاستسلام للماضي بأوزاره وتداعياته.
ويعتادني حاليا شعور بالرغبة في الهروب إلي الأمام وتلمس الخطي المطلوبة لهذا الوطن الغالي في مستقبله الذي لا تبدو ملامحه واضحة ولا خريطة الطريق إليه متاحة.. دعنا الآن نفصل ما نريد الوصول إليه:
أولا: إن سباق انتخابات الرئاسة للوصول إلي المقعد الأول في الدولة المصرية قد أصبح أمرا يثير الدهشة أحيانا بل والسخرية أحيانا أخري فكلمة (المرشح المحتمل) أصبحت متاحة لكل من يطلب شهرة عاجلة أو يسعي لمغامرة شخصية رابحة، ولم تعد هناك أوراق اعتماد تمثل أمامنا الحد الأدني من مقومات من يتطلع إلي ذلك المنصب الرفيع، بل إن ذلك السباق المحموم قد بدأ قبل الأوان دون أن يكون لدينا برلمان ولا دستور مستقر فأصبح معظم المرشحين محرومين من الرؤية الواضحة أو الفكرة المبتكرة وجري اختزال الموقف في زيارة هنا وخطبة هناك وكأنها انتخابات لعضوية برلمان وليست انتخابات لرئاسة دولة.. وأي دولة!
ثانيا: إن من يريد أن يجلس علي مقعد رمسيس وعزيز مصر وسيف الدين قطز وصلاح الدين الأيوبي ومحمد علي و جمال عبد الناصر وأنور السادات عليه أن يراجع نفسه ألف مرة وأن يتساءل: ماذا أستطيع أن أقدم لهذا البلد العريق في هذه الظروف الصعبة إذ ليس الأمر مجدا شخصيا أو إدارة للبلاد بمنطق الرئيس الموظف الذي كان يبدو أقرب إلي السنديك الذي تنحصر مهمته في تصفية تركة الدولة دون رؤية بعيدة أو إرادة ثاقبة فلقد كانت مأساة الأعوام الثلاثين التي مضت هي فقر الرؤية وضعف الإرادة.
ثالثا: إنني لا أوافق علي أن تكون معركة انتخابات الرئاسة هي منافسة بين شخوص دون برامج واضحة أو أفكار جديدة أو رؤي شاملة، فنحن لا نختار مديرا عاما لشركة ولكننا نختار قائدا لوطن لذلك فإن هناك مواصفات للموقع لا يتقدم لها إلا من يحمل برنامجا واضحا يواجه به مشكلات مصر الحالية وهي كثيرة ومعقدة فمن العبث التصدي لهذه المسئولية الصعبة بمنطق الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأمريكية مثلا، إننا بلد يبدأ مرحلة الإفاقة بعد الخروج من غرفة العمليات التي بدأت فيها الجراحة يوم 25 يناير 2011 حيث جري استئصال ورم خبيث كاد يمزق أحشاء الوطن بفيروس الاستبداد وميكروب الفساد.
رابعا: إننا نقولها صراحة، يجب ألا ننظر لمرشح الرئاسة إلا إذا كان يحمل لوطنه العظيم هدية في يديه. خصوصا في هذه الظروف بالغة الحساسية شديدة التعقيد. وأعني بذلك أن يكون لديه مشروع وطني واضح الملامح جرت دراسته بعناية وتوصيفه في جدول زمني محدد وفقا لفقه الأولويات الوطنية أمام ذلك التل الكبير من مشكلات مصر المتراكمة وقضاياها الموروثة، فهذا مرشح يجعل تعمير سيناء قضيته الوطنية الأولي وآخر يضع قضية نزع الألغام في الصحراء الغربية بين أولويات اهتماماته وثالث يري أن التصدي للعشوائيات مهمة عاجلة ورابع يمسك بين يديه بملف مياه النيل بعد جولة ناجحة يقوم بها بين عواصم دول حوض النهر، علي أن يقوم كل مرشح بدراسة قضيته دراسة متعمقة وأن يتقدم لشعبه بملفاته وأن يطرح أولوياته فنحن لا نختار بين اشخاص فقط ولكننا يجب ان نختار بين برامج مطروحة وافكار مدروسة فمصر حاليا تحتاج الكثير ولن يقتات المصريون شعارات رنانة أو تصريحات صاخبة أو زيارات مسرحية يغازل بها المرشح جيوب الفقر ومواقع الحرمان مقدما الوعود البراقة في استعراض لا يليق بظروف مصر بعد الثورة لأن المفترض أن العقلية الوطنية قد اختلفت، وأن الأولويات يجري ترتيبها الآن بحيث لا يطل علينا الاستبداد من جديد وألا يعود الينا الفساد بالحجم الذي اكتشفناه، إننا لا نريد إعادة إنتاج جديد لحاكم سابق أو عهد مضي ولن يعود.
خامسا: إن فنانا رائعا هو الأستاذ محمد صبحي يقدم الآن لوطنه ما هو أفضل من كثير مما قدمه مرشحو الرئاسة جميعا، فالرجل يتبني مشروعه الوطني الإنساني لجمع مليار جنيه في مواجهة مبدئية لمأساة العشوائيات في مصر، ولقد حضرت إحدي مناسبات هذا العمل واستمعت إلي ذلك الفنان المتميز وهو يطرح رؤيته التي لا يبغي منها إلا وجه الله والوطن وقد ذكرني دوره بكوكب الشرق أم كلثوم وهي تجوب العواصم العربية بعد نكسة 1967 تجمع التبرعات للمجهود الحربي المصري في أحلك الظروف وأصعب الأوقات.
سادسا: إنني لا أجد تفسيرا لظاهرة تبدو مستعصية علي الفهم لي ولغيري وهي ان ثورة شعبية الشباب هم مفجروها ووقودها تتحول الآن الي مشهد عبثي لا تفسير له، فكل المرشحين للرئاسة تقريبا فوق الخمسين من أعمارهم بل إن منهم من يتجاوز الخامسة والسبعين! وهؤلاء في الغالب لن يكونوا شركاء فاعلين في صياغة المستقبل لأنهم قد لا يكونون جزءا منه، فلم نسمع عن مرشح شباب في الأربعينيات من عمره مثلا يستطيع أن يتقدم الصفوف وأن يقود البلاد إلي بر الأمان في بلد تصل نسبة من هم دون الأربعين فيه إلي أكثر من ثلثي سكانه، ولاشك أن جزءا من المشكلة هو أن حشود الثورة المصرية تشكلت من خلال الخطاب السياسي لشبكات الكمبيوتر وهو خطاب ينجح في تجميع الحشود ولكنه لا يتمكن من تقديم قيادات ذات شعبية مؤثرة!
سابعا: إنني ممن يتحمسون لسرعة إجراء الانتخابات البرلمانية حتي ينتقل الحوار من ميدان التحرير ليصبح تحت قبة البرلمان كما أنني من المتحمسين أيضا لظهور دستور جديد للبلاد تتوافق عليه إرادة الأمة أو حتي ظهور إعلان دستوري متكامل يضع حدودا لحركة الرئيس القادم، فالكل يتحدث الآن عن الديمقراطية وحقوق الإنسان ومكافحة الفقر ومقاومة الفساد وذلك قبل الوصول إلي المنصب فإذا ما بلغوه وصفقت لهم الناس والتف حولهم المنافقون وأصحاب المصالح لا ندري كيف سوف سيكون حالهم وكيف ستتحول شخصياتهم!
... هذه رؤية خاطفة لقضية تحتل موقع الصدارة بين أولويات العمل الوطني في هذه المرحلة التي نصوغ فيها المستقبل بالرؤية والإرادة معا
جريدة الاهرام
5 سبتمبر 2011
https://www.youtube.com/watch?v=_MxMmY58E3s